تاریخ انتشارشنبه ۱۰ مرداد ۱۳۹۴ ساعت ۰۸:۵۲
کد مطلب : ۱۲۰۲
۰
plusresetminus
التربية والتعليم على ضوء المشروع الحضاري للإمام الخميني
الدكتور حسين صفي‌الدين
المقدمة
لا شك أن الثورات الكبرى في التاريخ حملت إلى عصرها تغييرا كبيرا امتد ليستوعب كافة مناحي وشؤون الحياة، وترك آثارا عميقة في التطورات السياسية-الاجتماعية على مستوى الإنسانية كافة .
والثورة الإسلامة في ايران والتي حدثت آواخر القرن الماضي إمتازت عن الثورات الكبرى في أنها حملت مفردات وأفكارا جديدة بل قيم ومبادئ، لم تقتصر فقط على التغيير في النظام السياسي، وفي المؤسسات والبنى الطبقية، بل طالت الكثير من مفردات الأيدولوجيا الحاكمة في حياة الناس.
لقد قدمت الثورة الإسلامية قيما جديدة حكمت الصراع الدائر بين الحق والباطل على مرّ التاريخ، فكان أن قفزت بهذا الصراع لاول مرة الى واجهة الأحداث ليمتاز بعنصرين أساسيين: الاول الوضوح لجهة معرفة العدو الأول للإنسانية والثاني عالمية الصراع بين الحق والباطل.
هذان العنصران يشكلان المدماك الأساسي في الحركة الممهدة لتحقيق المجتمع الإنساني العادل، والذي سيشكل الحلقة الأخيرة من حلقات التطور التاريخي نحو العدالة المثلى.
انطلق الإمام لتحقيق هذا المشروع الإلهي من زاوية دور واهمية التربية والتعليم وتزكية النفس والمجتمع والتي هي مهمة وهدف الأنبياء .
والجامعة باعتبارها احدى المؤسسات العلمية للمجتمع، كانت وما تزال مسرحا وأرضا خصبة مهيأة للتفاعل، سواء من حيث الإمكانيات والطاقات المتوفرة لديها، أو من حيث الاستقطاب والعطاء، وإذا كان حالها كذلك، فإنا نطرح على أنفسنا السؤال التالي:
ما هو الدور الذي يجب أن تلعبه الجامعة، وما هي المسؤولية الملقاة على عاتقها، وأي حاجة ضرورية تمثل لمجتمعها؟ الإجابة على هذه التساؤلات يؤسس للدور الذي يجب أن تلعبه الجامعة على مسرح الحياة الاجتماعية، طبعاً ستتنوع الإجابة بتنوع تصوراتنا لدور الجامعة.
لذا كان لزاماً أن ترجع إلى كلمات ونصوص الإمام الراحل(قده) ونحاول أن نصوغ نظرة تأسيسية شاملة لنكتشف من خلال أقوال الإمام، أن الدور الذي تلعبه الجامعة في تشكل مجتمعها وفي رسم حاضر ومستقبل بلدانها يعد دوراً خطيراً.
كان الإمام يؤكد دائماً أنه إذا صلح العالِم صلحت الأمة أو العالَم ويجدر بنا أن نضيف أنه إذا صلحت الجامعة صلح المجتمع، ففي الجامعة تناقش هموم البلاد وقضايا المجتمع الأساسية، وتطرح الحلول والمشاريع، وتقدم في مراكز بحوثها الحلول لمشاكل المجتمع، فهناك علاقة تأثير وتأثر بين الجامعة والمجتمع، فمن ناحية هي انعكاس لحاجات وتطور المجتمع، ومن ناحية أخرى هي المطبخ الفكري الذي يصوغ النظريات في جو من الحرية الفكرية، حيث تتلاقح الأفكار فيما بينها لتولد الأمثل والأنجع في عملية دفع لمجتمعها نحو التقدم والرقي والرفاهية.
ما نرمي إليه في هذه الدراسة المختصرة هو أن نسلط الضوء على الجامعة في فكر الإمام الخميني(قده) لنستنبط المنهج الكلي لهذا الدور من كلمات ووصايا وتوجهات الإمام ضمن نظراته الشاملة إلى الوجود والإنسان ومن خلال مشروعه الحضاري الاستنهاضي الذي أسس من خلال قيام دولة حديثة أصبحت تنافس بجدية النظم القائمة و"المتحضرة" في العالم بل وتتفوق عليها في الكثير من المجالات.
الهدف من التعليم والتربية
1. دعوة الأنبياء إلى التوحيد وهداية الناس
الإنسان كائن عجيب، يمتاز عن بقية الموجودات في إدراكاته وفي غاياتها، هو الموجود الوحيد الذي لا تقف إدراكاته عن حد ولا تنتهي قابلية التربية لديه، هذا الامتياز الذي فاق به الموجودات وافترق به عن سائر الحيوانات، هو امتلاكه لقوة عاقلة أعطته القدرة على التطور، ولولا هذا الامتياز لما بعث الله الأنبياء:
"إننا نحتاج للأنبياء لأننا لسنا مثل الحيوانات التي لها حدود حيوانية فقط وينتهي كل شيء" .والإنسان حقيقة مجردة عن عالم الطبيعة، مولودٌ على الفطرة التي فطر الناس عليها وهذه الفطرة من لوازم وجود الإنسان، وليست مقتصرة على التوحيد، بل إن جميع المعارف الحقة هي من الأمور التي فطر الناس عليها:
"اعلم أن المقصود من فطرة الله التي فطر الناس عليها هو الحال والكيفية التي خلق الناس عليها، وهم متصفون بها، والتي تُعد من لوازم وجودهم، وقد (تخمرت) طينتهم بها في أصل الخلق" .
ويرى الإمام الخميني(قده) أن الاختلاف أو الخلاف الموجود بين الناس في بلدانهم وبيئتهم وثقافتهم من آراء وعادات، وحتى اختلافهم في الأحكام العقلية، ليس لهذا الاختلاف أي تأثير في الأمور الفطرية، ومن أهم الأمور الفطرية التي جُبل الإنسان عليها بعد التوحيد فطرة (عشق الكمال)، هذه الفطرة مشتركة بين جميع بني البشر وبمقتضاها يسعى الجميع إلى الكمال وإن اختلفت مصاديقه بين الحقيقي منه وغير الحقيقي، في هذا الصدد يقول الإمام :
"فكلٌ وجد وظنَّ معشوقه في شيء، وتوهم كعبة آماله في أمر معين، فتوجه إليه وطلبه من قلبه وروحه، وإن أهل الدنيا وزخارفها يحسبون الكمال في الثروة ويجدون معشوقهم فيها... كن لا بد أن نعرف أن حب هؤلاء وعشقهم ليس في الحقيقة لهذا الذي ظنوه أنهم معشوقهم، إذ لو أن كل واحد منهم رجع إلى فطرته لوجد أن قلبه في الوقت الذي يُظهر العشق لشيء ما، فإنه يتحول فوراً عن هذا المعشوق إلى غيره، إذا وجد الثاني أكمل من الأول" .
وبالرغم من أن الجميع يعشقون الكمال ويتوجهون إليه، إلا أنهم غافلين عن أنهم متفقون في هذا الأمر الفطري البديهي، "ومما يثير الدهشة والعجب انه على الرغم من عدم وجود أي خلاف بشأن الأمور الفطرية.... فإن الناس نوعاً غافلون عن أنهم متفقون، ويظنون أنهم مختلفون" .
ومن أهم مصاديق عشق الكمال هو العشق للعلم المطلق " جميع الكائنات والعائلة البشرية يقولون بلسان فصيح، وقلب واحد، وجهة واحدة: إننا عاشقون لكلمات المطلق، إنا نحب الجمال والجلال المطلق، إنا نطلب القدرة المطلقة والعلم المطلق"
وكما امتاز الإنسان عن بقية الموجودات بقوته العاقلة كذلك امتاز بفطرته الخاصة علاوة عن عشق الكمال بطلب العلم والمعرفة، لكن رغم هذه السعة الوجودية للإنسان، فإنه مهما حاول جهده حتى نهاية عمره فجُلَّ ما يتمكن من معرفته هو العلاقات التي بين الأشياء المادية في عالم الطبيعة من علة ومعلول وسبب ومسبب، وأثر ومؤثر... إلخ لكن هذا الإنسان يبقى عاجزاً في أن يتحرك خارج حدود الطبيعة أو يدرك ما ورائها، بل لو جمعنا كلَّ طاقات البشر وأضفناها إلى بعضها البعض لوقفت على أعتاب فهم هذه الطبيعة والعالم المادي فقط.
والسر في ذلك أن الوجود أعم من عالم الغيب وعالم الشهادة، وعالم الطبيعة الذي نعيشه يقع في نهاية موجودات عالم الوجود، وهذا بخلاف الماديين الذين قرنوا وساووا بين وجود المادة ووجود العالم، فعندهم ما لا مادة له لا وجود له، واستتبع ذلك أن قصروا المعرفة على الحس والحواس، في حين أن المعرفة الحسية تستند إلى المعرفة العقلية كما يتكئ عالم المادة على العوالم الأكمل منه.
"إن معيار المعرفة في الفلسفة الإلهية هو أعم من أداني الحس والعقل. فيدخل المعقول المدرك بالعقل دائرة العلم حتى لو انعدم إدراكه بالحس، ولما كان الوجود أعم من عالمي الغيب والشهادة، فبالإمكان أن يكون لما لا مادة له وجود، وكما أن الموجود المادي يستند إلى المجرد كذلك حال المعرفة الحسية فهي مستندة على المعرفة العقلية" .
لكن السؤال الذي يُطرح أنه لو سلمنا بأن الإنسان ليس هو الموجود المادي فحسب وأن الوجود أعم من المادي والمجرد، وبالتالي فالمعرفة حسية عقلية، والحسي يستند إلى العقلي، فهل يستطيع هذا الإنسان أن يفهم العالم والوجود من حوله والتالي سيكون بغنى عن مساعدة السماء له؟
يرى الإمام أن العقول ما تزال حائرة وعاجز عن إدراك عالم المادة والطبيعة بتمامه، فعالم الطبيعة هو العالم الأدنى، وإذا عجزت العقول عن إدراكه، كيف لها أن تدرك العوالم الأخرى، يقول في ذلك:
"هذا الوجود العظيم لا تتمكن العقول من الإحاطة به، ولا يقدر أي شخص أن يلمَّ بأجمعه، هو عالم الدنيا، والعالم الحقير. فهذا العالم رغم سعته هو عالم الدنيا، وهذه السموات وما اكتشفوه فيها لحد الآن هي السماء الدنيا كما يعبر عنها القرآن، أما تلك السموات العليا فلم يكتشفوها ولا يدرون ما فيها" .
فللإنسان عالم ما وراء الطبيعة، ولو كان كل شيء مقصور على هذا العالم، لما كان هناك حاجة إلى إرسال الأنبياء ليأخذوا بيد الإنسان إلى الصراط المستقيم "لو كان الإنسان بهذا المستوى من الطبيعة، ولم يكن شيئاً أكثر من هذا، فلم تكن هناك أية حاجة لإرسال شيء للإنسان من عالم الغيب لكي يربي الإنسان، ويربي الجانب الآخر منه" .
وامتلاك الإنسان عقلاً مستعداً بالقوة، وهو الجانب المعنوي فيه، يفرض وجود المربي الذي يملك العلم الحقيقي بالبعد المعنوي للإنسان، بالبعد الذي يربط الإنسان بالطبيعة وما وراءها، والإنسان يملك قابلية أن يكون إلهياً أو شيطانياً "لا يوجد أي كائن مثل الإنسان، فهو أعجوبة لإمكانه أن يصبح كائناً إلهياً ملكوتياً، أو كائناً شيطانياً جهنمياً... وأن الأعمال التي تصدر منه، فإن حسنها وقبحها وصلاحها وفسادها مرتبط بتلك الجهات المعنوية للإنسان" . فلا موجود يستطيع أن يعرف حقيقة هذا الإنسان وميولاته ورغباته إلا الباري سبحانه، ولا لأحد أن يعرف العلاقات بين جميع الموجودات الخافية على البشر إلا الباري سبحانه، لأنه هو الذي خلق كل شيء، كل هذا اقتضى أن ينزل الوحي على أناس مؤهلين لنشر التوحيد وتربية الإنسان، هؤلاء نالوا الكمالات المعنوية، فكانت سبباً لتتحقق علاقة بينهم وبين عالم الوحي، فأوحى الله إليهم وأرسلهم لتربية الجانب الآخر من الإنسان .
2. دعوة الأنبياء إلى بناء الإنسان وتزكيته
إن أول آية نزلت على الرسول كما جاء في الأخبار {اقرأ اسم ربك} ، فرسالة الإسلام بدأت بالقراءة حتى سمـيت أمة الإسلام بـ(أمة اقرأ)، فدعي الإنسان منذ البداية إلى
القراءة والتعلم.
لكن الآيات التي تلت تتحدث عن أمرٍ خطير للغاية وهو الطغيان، وفي هذا الصدد يقول الإمام(قده):
"{كلا إن الإنسان ليطغى إن رآه استغنى} فتبين أن الطغيان والتحول إلى طاغوت يعد من أخطر الأمور، وللتخلص من هذه الحالة لا بد من تعليم الكتاب والحكمة والتزكية" .
فالإنسان عموماً يطغى حين يستغني، ويكون الطغيان بمقدار الاستغناء، فقد يطغى الإنسان عندما يستغني علمياً، أو عندما يحصل على مقام كما طغى فرعون، فالإنسان ما لم يزكي نفسه، فإن الأمور والمتعلقات الدنيوية سوف تجره إلى الطغيان، "لذلك كان هدف البعثة هو إنقاذنا من هذا الطغيان" .
ولا يفرق الإمام بين طغيان وآخر، لأن هذا الطغيان من سنخ واحد مزروع في جبلة الإنسان {ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها} فلو ترك الإنسان وشأنه لأصبح كل فرد منه {أنا ربكم الأعلى} لأن دافع الطغيان موجود عند الجميع، ولبغى بعضهم على بعض، يقول الإمام(قده).
"تعود جذور جميع الاختلافات الموجودة بين البشر وبين السلاطين، وبين أصحاب النفوذ إلى الطغيان الموجود في النفس، فالسبب هو أن الإنسان رأى نفسه صاحب مقام فطغى، ولأنه لا يقنع بهذا المنصب، فنرى أن الطغيان يجره إلى العدوان، وعندما يحصل العدوان يحصل الاختلاف، ولا يوجد فرق فهو كله طغيان سواء كان في مرتبة دنيا أو مرتبة عليا" .
فجميع مشاكل الإنسان وأنواع الطغيان والعدوان بين البشر، سببه عدم تزكية النفوس، بل إن جميع المصائب التي حلت بالإنسانية نشأت من أنانية الإنسان، فالحروب التي نشأت في العالم سببها هذه الأنانية، فعندما لا يكون الإنسان مؤمناً ويريد كل شيء لنفسه، ينشأ التعارض والنزاع بين البشر، أما عند الأولياء فالأنانيات معدومة والحروب أيضاً معدومة، ولو اجتمع جميع الأولياء في مكان واحد لما شب بينهم أي نزاع. ولو أن الإنسان زكى نفسه لما رأينا الطغيان في حياته، فمصائب الإنسان ترجع في الحقيقة إلى أهوائه النفسية والتي لن تستقيم في حياته إلا إذا زكى نفسه ورباها، والأنبياء جاؤوا من أجل تزكية هذا الإنسان وبنائه، فما نادى به الأنبياء هو الإنسان ولا شيء غيره.
"إن ما نادى به الأنبياء هو الإنسان ولا شيء غيره، يجب أن يكون كل شيء على شكل إنسان، إنهم يريدون بناء الإنسان وسوف يصلح كل شيء عندما يتم إصلاح الإنسان" .
فمن خلال إصلاح الإنسان سوف تثمر جهود الأنبياء في إنقاذ الناس من الظلمة إلى النور، وفي معرفة الناس بالعالم كما هو لا كما ندركه نحن ولا كما نريده، والظلمة عند الإمام نوعان، ظلمة النفس وظلمة الظلم، لذا يعتقد أن الهدف الأول للأنبياء يتشعب على هدفين آخرين: "لقد بعث الأنبياء من أجل تنمية معنويات الناس... وإنقاذ الضعيف من نير الاستكبار، وكان للأنبياء هاتين الوظيفتين، الوظيفة المعنوية لإنقاذ الناس من أسر النفس، من أسر ذاتها (لأن الذات هي شيطان كبير) وإنقاذ الناس والضعفاء من سلطة الظالمين" .
ويرى الإمام أن القوانين الوضعية لا تهتم بالذات الباطنية للإنسان إنما تنظر إلى سلوكه الخارجي، فلا يهمهم البعد المعنوي، هل هو سعيد أو شقي، المهم أن لا يؤذي أحد ولا يخل بالنظام العام، ولا يهتمون أبداً بما يفعله في بيته أو في خلواته وفي الخفاء، وهذا حال جميع المدارس غير التوحيدية، أما المدارس الإلهية فهي التي تبني الإنسان:
"إن جميع الأديان النازلة من الخالق سبحانه وتعالى، وجميع الأنبياء العظام الذي أُمروا بالإبلاغ، إنما جاؤوا من أجل راحة الإنسان وبنائه، وأراد الباري من خلال الوحي للأنبياء العظام هداية الناس... جميع الناس... وبناء الإنسان في جميع أبعاده التي له. إن جميع القوى وسائر الدول لا تبالي بمعنويات الناس، وجميع المدارس الموجودة في الدنيا سوى مدارس التوحيد، لا تبالي بالذات الباطنية للإنسان، ما هي نفسيته، فليعمل ما يشاء، ولا يهتمون إلا بالمحافظة على دنياهم" .
من هنا كانت مهمة الأنبياء هي تعليم الناس وتربيتهم، فالنبي الأكرم(ص) هو معلم البشري ومربيها، والعلم بدون التزكية كالعلم بلا عمل، وعلماء السوء هم الذين يحملون العلم ولا يعملون به، لأنهم لم يقرونه بالتزكية، هؤلاء شبههم القرآن كالحمار يحمل أسفار {مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفار} ، فهؤلاء علماء لكن العلم يم يترك فيهم أي تأثير، وفي هذه الحال لا فرق أن يكون العلم على صدر الإنسان أو على ظهره .
ويذهب الإمام أكثر من ذلك فيعتبر أن التربية والتزكية أهم من التعليم، لأن التعليم إذا لم يقترن بالتربية سيتحول إلى علم مضرٍ وهدام ، فالعالم الفاسد سيُفسد المجتمع ومن حوله، من هنا كان إصرار نبي الإسلام على {إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق}، فتربية الإنسان يتم إصلاح العالم، و"إن مضار الإنسان الذي لم تتم تربيته بالمجتمعات لا تساويها مضار شيطان أو حيوان متوحش أو أي كائن آخر، وإن منافع الإنسان المتربي لمجتمعه لا تضاهيها أي منفعة... فالإنسان هو عصارة جميع الكائنات وخلاصة لتمام العالم... ومحل تجلي النور المقدس لله تعالى" .
3. بناء الإنسان في ظل الحكومات الإلهية
لقد قام الأنبياء ودعاة التوحيد ضد الظلم، وخاضوا حروباً كثيرة مع الأقوياء والظلمة والأثرياء والمترفين، قاموا ضد هؤلاء من أجل الوقوف في وجههم ومنعهم من نهب ثروات الشعوب ومن أجل تحقيق العدالة والمساواة في المجتمع، ومن يستقرأ التاريخ سيجد أن الشعوب والجماهير المستضعفة والمحرومة هي التي قامت بالثورة ضد سلاطين الجور، والحفاة هم حملة راية الإسلام المحمدي الأصيل، الذي وقف في وجه المصالح الشخصية والذي منع المتخمين في حياة الترف والعيش أن يفعلوا ما يشاؤون، ويبين الإمام هذا المعنى إذ يقول :
"يا أبنائي الأعزاء في الجهاد، إن الشيء الوحيد الذي يجب أن تفكروا به هو إحكام أسس الإسلام المحمدي(ص) الأصيل... الإسلام الذي سيذل الغرب والشرق... الإسلام الذي يرفع لواءه الحفاة والمظلومين والفقراء في العالم، وأعداؤهم الملحدون والكافرون والرأسمـاليون وعبدة المال... والمتظاهرون بالتقدس والجاهلون" .
وأساس البعثة _ بعثة الرسول الأكرم _ هو رفع الظلم وتحقيق العدالة، وجاء النبي ليوضح للناس طريق رفع الظلم وإزالته، لينكشف لهم الطريق حتى يستطيعوا أن يواجهوا القوى الكبرى "جاءت بعثة رسول الله لتوضح للناس طريق رفع الظلم وإزالته، وتكشف لهم الطريق، حتى يواجه الناس القوى الكبرى، وتستهدف البعثة إنقاذ أخلاق الناس ونفوسهم وأرواحهم، وأجسامهم من الظلمات، وأن تزيل الظلمات ليحل محلها النور، لتزيح ظلمة الجهل وتأتي مكانها بنور العمل" .
فالنبوة جاءت لتحطيم قواعد ظلم الأقوياء، وتحطيم قواعد قصور الظلم التي ارتفعت أعمدتها من خلال تعب المحرومين والمستضعفين وما فعله إبراهيم وموسى وغيرهم من الأنبياء أنهم انتفضوا جميعاً بوجه الجور، ومن يتبع الإسلام، يجب عليه أن يقف ويعارض القوى العظمى، ويخلص المظلومين من مخالبها، وإن نداء عاشوراء هو الوقوف بوجه الظلم، لكن هذا الوقوف يجب أن يبدأ من النفوس {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} فإن هذا القانون الإلهي ينصب على أنه لو حدثت تغييرات في شعب أو قوم معينين، فإن ذلك سيكون سبباً لحدوث تغييرات تكوينية، وتغييرات عالمية، وانتصار الثورة الإسلامية في إيران هو رهن بهذا التغير الذي حدث.
"فقد حصل تحول في قومنا وتغيروا، وما لم يحصل هذا التغير النفساني فإن تغييراً حقيقياً _ والذي هو زوال النظام الطاغوتي، ومجيء النظام الإسلامي ما كان ليحصل... فلو غير أنفسنا باتجاه قبول الظلم، فمن الطبيعي أن يحكمنا ظالم... إن شعبنا كان خلال سنوات طويلة خاضعاً للظلم والعذاب وذلك بسبب خروجه عن تلك الفطرة التي هي فطرة الله وسلك فطرة أخرى، وربى نفسه تربية أخرى، فأصبح جاهزاً لقبول الضغوط، وكنا لا أباليين" .
إذاً التغيير عند الإمام يجب أن يبدأ من النفس ومن نفوس الناس في المجتمع، من النفس على المستوى الفردي والاجتماعي، وهنا يؤكد الإمام دائماً على هجرة النفس من النفس، هجرة النفس من بيتها الظلماني ومن أسر الذات "هناك أشخاص تحركوا وخرجوا من حفرة النفس وهاجروا، {ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت، فقد وقع أجره على الله} فأحد الاحتمالات أن هذه الهجرة هي من النفس إلى الله، والبيت هنا هو نفس الإنسان" .
هذا يعني هجرة النفس من أسر الذات، وهجرة الناس من الظلمات إلى نور التوحيد والإسلام، ولا يتحقق ذلك إلاّ من خلال قيام الحكومة الإسلامية، لذا ركز الإمام في خطابة النهضوي على الشعب واعتبر ولأول مرة ن الشعب هو القائد وهو الذي يرسم طريق الثورة ومن خلفه النخب والمثقفين بعدما كان الديدن يقتضي أن يكونوا في مقدمة مسيرة الثوريين.
ماهية خطاب الإمام لمستضعفي ومسلمي العالم
قبل الحديث عن ماهية خطاب الإمام لمستضعفي ومسلمي العالم لا يسع الباحث إلاّ أن يستعرض ماهية الحضارات والنماذج الحضارية التي اجتذبت إليها الأنصار والأتباع على مرّ التاريخ، وكذلك إلى تبيين العلاقة ما بين المستضعفين والمسلمين في العالم.
ماهية الحضارة الإسلامية
لقد عُرِّفت الحضارة بأنها "تبصرُ بالغايات" ، والتبصر يعني أنها حركة معرفية واعية تتحرك من منطلقات معددة وتنتهج سلوكاً واعياً إلى أهداف مرسومة من قبل، ترتبط بمنطلقاتها ارتباط النتائج بالمقدمات، وإذا كانت العلل الغائية _ بتعبير الفلاسفة _ هي علل فاعلية الفاعل، أضحى التبصر بالغايات "فكراً ومعرفةً وأفعالاً ووسائل" حيث لا تنفك الأهداف عن وسائلها كما لا تنفك عن مناهجها لا منطقياً ولا أخلاقياً، فالجميع يتبع سنخاً واحداً.
بهذا المعنى تصبح الحضارة منهج معرفة وفهم الأمة لدور الإنسان في عالم الوجود والطبيعة. "وهذا يعني أن الحضارة هي منهج فكر واصل بالنتيجة إلى أنواع أو أنماط ومواقف سلوكية إنسانية تحاكي كيان الأمة الفكري وعلله ومصادره وتجلياته في القول والعمل والتطلعات ومعايير محاكمة للأشياء وعلاقات الناس والعالم .
وعندما تختلف الأمم والشعوب في أصولها وأسسها ومكوناتها، يضحى النموذج الحضاري هو المظهر التي تعبر به الأمم عن مفهوم الحضارة ذاته، وتصبح عندئذٍ الحضارة الإسلامية تعبير عن نسيج الإسلام بما يمثل من رؤية كونية مختلفة إلى العالم والوجود ومن مشروع حياة ونظام اجتماعي "أيدولوجي" ذات بعدٍ إلهي.
وإذا كانت الغايات لا تنفك عن وسائلها كما مرَّ، أضحت الدولة الإسلامية أو الحكومة الإسلامية المتصدية لتنفيذ وتطبيق الشرائع لتنظيم شؤون المجتمع والسير به نحو التقدم والرقي والتكامل من الوجود المادي إلى ما ورائه، أضحت هي النموذج الحضاري الإسلامي وبناء على ذلك لا يصح الحديث عن حضارات متعددة في تاريخ البشرية، وإن صح الحديث عن نماذج مختلفة اتفقت في الجوهر واختلفت في ظاهرها، فلا يوجد فروقات جوهرية أو بنيوية بين حضارات التاريخ من إغريقية يونانية أو فرعونية أو ساسانية، وإن ظهر اختلاف بين نماذج الإمبراطورية الرومانية أو الفارسية وقبلهما المصرية، لأن هذه الحضارات والنماذج تتقاطع في توحد الغايات والمثل العليا، وفي الأساس هي تختزل البعد الإلهي ليحل محله البعد الفرعوني.
نتيجة لهذا الفصل بين أنواع الحضارات، فإن تاريخ البشرية ومنذ بدء الخليقة منقسم بين حضارتين لا ثالث لهما، حضارة الفطرة والتوحيد وحضارة الباطل المادية، بمعنى آخر إن تاريخ البشرية محكوم بثنائية قطبية _ كالضدين لا يجتمعان _ متصارعتين عبر التاريخ، ونوازع ذلك موجود في أعماق الكائن البشري.
قال تعالى {إني خالق بشراً من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين} .
وقال أيضاً: {ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها} .
وقال أيضاً :{من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد، ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً مدحوراً، ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولائك كان سعيهم مشكوراً، كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك ومن كان عطاء ربك محظوراً} .
هذه القراءة لتاريخ الحضارات كما يسميها الباحثون في فلسفة الحضارات هي قراءة عمودية، فكلا الحضارتين تصدر عن أصل وتخضع لسنن وقوانين وتحمل حقائق ومشروعاً مختلفاً.
حضارة الباطل تبدأ من هذا العالم، وتبقى فيه وتنتهي به، وإذا كان لأصحاب حضارة الباطل دين ما "فللغايات الدنيوية فقط" دون البحث عن حقانية هذا الدين، وإلى أي مدى سيرقى بوجود الإنسان، ويبقى الشغل الوحيد لهذه الحضارة هو تأمين حاجات الإنسان المادية، ويصبح الحكم بتقدمها ورقيها أو عدمه بمقدار ما حققته من وسائل الراحة والرفاهية وبمقدار ما أصبح الإنسان متسلطاً على الطبيعة من أجل تسخيرها لراحته ومنافعه.
إن عشق هذه المثل يتجلى في كل جوانب حياة الحضارة المادية، من فلسفتها وقوانينها وأخلاقها وممارساتها وحتى تقدمها العلمي والتقني، وبكلمة جامعة، أن حضارة الباطل ينبغي البحث عنها وعن آثارها في هذا العالم لأن منه تبدأ وفيه وتنتهي، أما حضارة الحق والفطرة الإلهية فتصور قبل هذا العالم وتتجلى فيه وتستمر مسؤوليتها بعدها، فكل ما في الكون يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم، والإنسان سيعيش المسؤولية تجاه نفسه وخالقه والكون المحيط به وبالأخص تجاه أخيه الإنسان، في هذا الصدد يقول الإمام الخميني:
"الإنسان المادي لا ينظر إلى جانب المادة ولا يهمه من أين جاءت هذه المادة... إنه يريد الأشياء لنفسها ولا يهمه مبدؤها. أما الإنسان الإلهي فلو أعطي شيئاً لسأل من أين؟ وماذا هو؟ وهل صحيح استخدامه؟ "... فهذا هو الإنسان الذي يفكر بهذه الأمور، ونحن نريد مثل هذا أيضاً" .
فكل أجزاء الكون يترابط بعضها مع بعض ويؤثر بعضها في بعض، فلا يوجد حادثة، في شرق الأرض أو غربها ليس لها أدنى علاقة بأختها في أقاصي الأرض، لأن الجميع معلول لعلة واحدة، ويشتركون في هذه الناحية من السببية، لكن تأثير الإنسان كان تأثيراً مسؤولاً افترق في ذلك عن غيره من الموجودات، قال تعالى:
{إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً} .
ومقتضى هذا التحمل للمسؤولية أن لا تتركه العناية الإلهية لشأنه يواجه مصيره بنفسه دون إرشاد أو هداية، لا بالمعنى التكويني {أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} ولا بالمعنى التشريعي، فالعناية واللطف الإلهي اقتضيا الهداية وقد ما دليلها التشريعي المتوافق مع الكتاب التكويني للوجود إنسانه وعالمه، فالإسلام بما هو روح الحضارة الحقيقية "حقيقة وله حكمٌ في جميع شؤون الإنسان المادية والمعنوية إلى حيث لا يصل إدراككم له" .
"في الوقت الذي لم يكن في الغرب أي خبر يُذكر، وكان سكانه يعيشون في وحشية... وكانت الإمبراطوريتان الإيرانية والرومانية محكومتان للاستبداد والتبعيض، وتسلط أصحاب القدرة والإشراف، ولم يكن فيهما أثر من حكومة الناس والقانون، أرسل الله آنذاك تلك القوانين التي صدع بها النبي الأعظم محمد(ص)، والتي تحيّر بعظمتها الإنسان. وحدد لكل شيء الآداب والقوانين، فمن قبل تكوّن الإنسان وحين نزوله في حفرته، وضعت له قوانين خاصة، ورسمـت العلاقات الاجتماعية، ونظمت الحكومة، إلى جانب ما رسم من وظائف وعبادات" .
فالإسلام فيه البرنامج والخطة التربوية الشاملة بشقيها النظري والعملي، وبناءً على هذه الخطة تشكلت في الحضارة الإسلامية النظرية السياسية في الحكم وتشكل نظام القيم في المجتمع.
في هذا النموذج الحضاري يتحول الاستخلاف الإلهي إلى حركة تكاملية مستمرة في عملية كدح ونصب وارتقاء نحو المطلق واللامحدود، كلٌ في حدود قابلياته ومستوى الاختيارات الممنوحة له، فما من امرئ يولد إلا على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، لا يحمل بطاقة الخلود في النار ولا جواز العبور إلى الجنة، مصير الإنسان ما يقرره عمله {ووجدوا ما عملوا حاضراً} ، واللطيف بعباده يبحث عن عذر لإدخال الناس إلى الجنة لا إلى الجحيم.
الإمام الخميني والثنائية القطبية في العالم
ما إن شارفت الحرب العالمية الثانية على الانتهاء حتى عُقدت اتفاقية "يالطا" والتي أرست نظاماً عالمياً جديداً، برز فيه قوتان عظيمتان هما الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي، حيث شكلتا مركزي استقطاب للعالم على كافة الصعد والمستويات، ومع هذا الاستقطاب ازدادت حدة التنافس والصراع على المناطق ذات النفوذ الاستراتيجي في العالم وبالأخص في عالمنا الإسلامي حيث يزخر بالخيرات ويختزن مصادر الطاقة من الغاز والنفط والماء مستقبلاً. هذا التجاذب الحاد برّز إلى العلن في العلاقات الدولية ما بات يعرف بقضية التبعية، والتي سرعان ما أصبحت مشكلة بحد ذاتها أدت إلى تصدع البنيان الحضاري والتاريخي للشعوب، وإلى فقدان الهوية والشعور بالانتماء الأصيل، فضلاً عن التخلف وسلسلة الحروب الطويلة المدمرة، وفقدت على أثر ذلك شعوب العالم الإسلامي أي قدرة على النهوض وإبداع الحلول لمشاكل مجتمعاتها.
وبعبارة أخرى فقد اكتسح مشروع الحضارة المادية صدر الأمة وتكرس كمشروع منتصر في العالم بعدما هزم كل الآخرين، "أما الإسلام فكان قد تحول إلى مجموعة من أسفار مجيدة تنوء بأثقالها الظهور المكسورة فأودعتها رفوف المكتبات الدهرية، أو فيما خلف الذاكرة مبددة التأثير أو متروكة لعبث مستشرقي الداخل والخارج، وأخرج القرآن من الساحة حتى كأنه فقد دوره في الهداية لصالح مشروع الباطل" . وقد بلغ الحد أن استخدم نفس القرآن من أجل هدم قيم الإسلام، يقول الإمام:
"لقد استغل عباد الأنا والطواغيت القرآن الكريم واتخذوه وسيلة للحكومات المعادية للقرآن... فقد أخرجوا القرآن _ الذي كان ولا يزال الدستور الأعظم لحياة البشر وشؤونهم المادية والمعنوية... من الميدان وأبطلوا حكومة العدل الإلهي وهي أحد أهداف هذا الكتاب المقدس" .
لم يكن للصمت أو السكون مكان في وجدان وشخصية الإمام الخميني(قده) فسرعان ما عمل للخروج من دائرة الاستقطاب الدولي وذلك بإعادة رسم الخارطة من جديد، فقسم العالم تقسيماً جديداً:
عالم المستضعفين وعالم المستكبرين، عالمان لا يجتمعان ولا يتصالحان لأن أحدهما إلهي والآخر مادي، يقول الإمام(قده):
"إن الذين يعترضون علينا ويقولون لماذا لا تصالحون القوى الفاسدة، إنما ينظرون إلى جميع الأمور بنظرة مادية، ويفسرون الأمور من خلال العين المادية... إن مصالحة الظالم تعد ظلماً للمظلومين، وإن مصالحة القوى العظمى تُعدُّ ظلماً للبشرية، إن الذين يطلبون منا المساومة إما جهلة وإما عملاء" .
إذن ثار الإمام كما قام حملة المشروع الإلهي وأصحاب عقيدة التوحيد على مر العصور ليشكل انعطافاً تاريخياً نوعياً وطفرةً حقيقيةً غيّرت المسار التاريخي للإنسانية في القرن العشرين وبداية الألفية الثالثة، نظر الإمام فلم يجد سوى نموذجين حضاريين: نموذج الاستضعاف وفيه المسلمون وغير المسلمين، ونموذج الطاغوت الجامع لكل قوى الباطل وأتباعه في الأرض.
لقد استمد الإمام هذه المصطلحات، الاستضعاف والاستكبار أو الطاغوت من عقيدة القرآن الكريم، وأراد بهذا التقسيم أن تكون رسالته أممية، حتى الثورة التي نجحت في إيران، يعتبرها غير محدودة بإيران ولا تنهي الصراع مع المستبكرين بنجاحها: "يجب أن يعلم مسؤولونا أن ثورتنا غير محدودة بإيران، إن ثورة الشعب الإيراني هي نقطة بداية لثورة عالم الإسلام الكبرى" .
"إن الجميع مصممون على نشر التوحيد الأصيل بين الشعوب الإسلامية ودق رأس الخصم بالحجر، حتى يتحقق في القريب العاجل انتصار الإسلام في العالم" .
صحيح أن كل تقسيم ثنائي للعالم يدور بين الإثبات والنفي سوف تستغرق دوائره وجه البسيطة، لكن كل تقسيم لن يكون أممياً في الجانب الإيجابي من خطابه، لقد رأى الإمام أن دائرة المستضعفين تشمل بعض المسلمين وغيرهم من بني البشر، كما أن دائرة الطاغوت والمستكبرين تشمل بعض المسلمين وغيرهم أيضاً، لذا نجد الإمام ميّز بين نوعين من الإسلام، الإسلام المحمدي الأصيل والإسلام الأمريكي. يقول في ذلك:
"إن طريق محاربة الإسلام الأمريكي له تعقيدٌ خاص يجب أن تتضح جميع زواياه...
ومع الأسف فإن الكثير من الشعوب الإسلامية لم يتشخص لديها كاملاً الحد بين الإسلام الأمريكي والإسلام المحمدي الأصيل، إسلام الحفاة والمحرومين، وإسلام المتظاهرين بالتقدس والتدين والمتحجرين الرأسمـاليين الذين لا يعرفون الله والمرفهين الذين لا يعانون من شيء" .
نجد أن الإمام لم يلجا في تقسيمه للعالم إلى دار الكفر ودار الإيمان أو الإسلام كما فعلت الكثير من الحركات الثورية الإسلامية، لأنه وجد أن الكفر الحقيقي ينبغي البحث عنه في الذهنية الطاغوتية والفرعونية، في تسلط الإنسان على أخيه الإنسان.
أما على مستوى الداخل فقد رفع الإمام شعاراً موازياً للشعار الذي رفعه للعالم، اتخذ شعار عدم الانحياز للشرق أو للغرب في تأسيسه للجمهورية الإسلامية، فاستوحى مرةً أخرى من القرآن الكريم {زيتونة لا شرقية ولا غربية، يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، نور على نور} فأعاد بذلك تشكيل الوعي بكل مستوياته ومفرداته ومفاهيمه .
لذا تحرك الإمام لإقامة الحكومة الإسلامية والتي اعتقد أنها ستحقق العدل والقسط وحرية الشعب واستقلاله من كل أنواع التبعيات الداخلية والخارجية، وكان يعتقد أن إقامة الجمهورية الإسلامية وتغيير السلطة في إيران ليس هو الغاية بحد ذاتها، وإنما "الاستيلاء على السلطة" هو الوسيلة التي يتم بها تنفيذ أمر الله في إجراء الكثير من الأحكام والشعائر الإلهية، وكان يعتبر أن جميع الأنبياء ومنذ بداية البشرية إلى خاتم الأنبياء(ص) استهدفوا إصلاح المجتمع وأن يقوم الناس بالقسط فقد أُرسلوا بالبينات والحديد، وفي ارتباط الحاصل في الآية {وأنزلنا الحديد} مع البينات يقول الإمام :
"إن ذلك يعني أن تحقق (هذه الأهداف) يكون بالحديد والبينات والحديد فيه {بأس شديد} أي إذا أراد شخص أو مجموعة معينة القضاء على المجتمع... فإنه ينبغي التحدث معها بالبينات، فإن لم ينفع ذلك، فبالموازين العقلية، وإن لم ترتدع وتتعقل فالبحديد".
ويقول أيضاً :
"الأنبياء العظام السابقون والرسول الأعظم(ص) في الوقت الذي يحملون فيه الكتب السماوية في يد من أجل هداية الناس، كانوا يحملون السلاح في اليد الأخرى، فإبراهيم(ع) كان يحمل الصحف في يد، والفأس في يد أخرى للقضاء على الأصنام، وكان كليم الله موسى(ع) يحمل التوراة في يد والعصا في يد أخرى، تلك العصا التي أذلت الفراعنة، وتحولت إلى أفعى وابتلعت الخائنين" .
كان يعتقد أن مهام الأنبياء هو تدمير ودك عروش ومعاقل الظالمين وبناء جيل مجاهد ومناهض للاستكبار يقول عن ذلك:
"لقد جاءت النبوة وبعث النبي من أجل تحطيم معاقل الظالمين الذين يظلمون الناس، وإن معاقل الظلم هذه قد قامت أسسها على كدح هؤلاء الضعفاء وعلى دمائهم واستثماراتهم... كان مجيء النبي(ص) لتحطيم هذه المعاقل وقلع جذور الظلم، ومن جانب آخر فلأن الهدف أيضاً بسط التوحيد، فقد قام بهدم مراكز عباده غير الخالق جل وعلا ومراكز عبدة النار وأطفأ نيرانهم" .
وكان الإمام يعتقد أن نهضة عاشوراء نابعة مما يراه لدور الأديان ولما جاء به الأنبياء ولحركة أئمة الهدى من أهل البيت، من نشر عقيدة التوحيد وإقامة حكومة العدل الإلهي، فاستشهاد الإمام الحسين(ع) كان عنده من أجل القيام لله وإصلاح الأمة وتقويمها، وكان يعتقد أن تحقيق هذه الأهداف العظمى تسترخص حفظ النفس ولو كانت نفس إمام معصوم، وعن ذلك يقول:
"لقد بُعث الأنبياء لإصلاح المجتمع وكلهم كانوا يؤكدون أنه ينبغي التضحية بالفرد من أجل المجتمع، مهما كان الفرد عظيماً، حتى ولو كان الفرد أعظم من في الأرض، فإذا اقتضت مصلحة المجتمع التضحية بهذا الفرد فعليه أن يضحي... وعلى هذا الأساس نهض سيد الشهداء(ع) وضحى بنفسه وأنصاره، فالفرد يفدى في سبيل المجتمع، فإذا اقتضت مصلحة المجتمع على تضحيته وجب التضحية، إن العدالة ينبغي أن تتحقق بين الناس {ليقوم الناس بالقسط}" .
وكان الإمام يرى ان ما ينقصنا في العصر الحاضر هو عصا موسى وسيف علي "كل ما ينقصنا هو عصا موسى وسيف علي بن أبي طالب وعزيمتهما الجبارة، وإذا عزمنا على إقامة دعم إسلامي، فسنحصل على عصا موسى وسيف علي أيضاً" .
وكان الإمام ذا ثقة كبيرة بتحقيق أهدافه وإن منطق التاريخ والسنن الإلهية كفيل بتحقيق هذا النصر، شرط أن يعمل رواد الأمة بتكليفهم الشرعي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان يعتقد أن هذه الفريضة الإلهية إنما شرعت لتستقيم الفرائض كلها كبيرها وصغيرها "ولهذه العظائم شرع الإسلام وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا لصغار الأمور فقط، مما نرى ونسمع يومياً، وإن وجب إنكارها والردع عنها" .
بهذا الإيمان حقق الإمام الخميني المشروع الإلهي في إيران، وكان قلبه النابض واستمر هذا المشروع يصدح في العالم من بعده، على أمل أن يسود الإسلام العالم وتنمحي آثار الكفر والاستكبار عن وجه الأرض، فهي الخطوة الأولى في المشروع الكبير، مشروع إقامة العدل من أجل جميع المستضعفين في العالم.
رسالة الجامعة في فكر الإمام الخميني
يرى الإمام أن الجامعات يجب أن تكون مستقلة عن الشرق وعن الغرب شأنها شأن نفس نهج الجمهورية الإسلامية لكيلا يقع البلد في أيدي الأجانب والأعداء، لأن من وجهة نظر الإمام فإن أي تغيير في شؤون أي بلد يبدأ من الجامعة، فالجامعة تستطيع أن تكون المكان الذي يبدأ منه صلاح المجتمع ومن الممكن أيضاً أن تورده موارد الهلاك، وعلى الجامعة أن تحقق هدفين: تربية الإنسان وتقويمه، وتربية العلماء والمختصين، وهذان الهدفان يجب أن يتحققا جنباً إلى جنب.
ويركّز الإمام على أسلحة الجامعات، بمعنى أن العلوم التي تعطي في الجامعة لا ينبغي النظر إليها على أساس أنها علوم مستقلة، وإنما يضيف إليها معنى الآخر، معنىً يتعلق بالنظرة التوحيدية للإنسان المسلم إلى جميع موجودات هذا العالم "يعيد الإسلام جميع المحسوسات وجميع العالم إلى مرتبة التوحيد، فتعليمات الإسلام ليست تعليمات طبيعية ولا تعليمات رياضية، ولا تعليمات طبية، إنها تشمل كل تلك، ولكنها مرتبطة بالتوحيد وقد أمسك بزمامها" .
فلا يوجد طب أمريكي ولا طب سوفياتي وكذلك لا يوجد رياضيات إلهية ولا رياضيات مادية، لأن العلوم الطبيعية علوم مشتركة عن الجميع لكنها تصبح إلهية أو شيطانية باختلاف ارتباطها بثقافة الإنسان وأهدافه وغاياته، فإذا ما كان الإنسان توحيداً فإن هذه العلوم ستصبح علوم إلهية شريفة فالإسلام لا ينظر إلى العلوم نظرة مستقلة، ومهما بلغت هذه العلوم من الرفعة والتقدم فإنها ليست ذلك الذي يريده الإسلام "إن جميع العلوم التي تذكرونها وتثنون بسببها على الجامعات الأجنبية، وتستحق الثناء فعلاً، فإنها تمثل ورقة واحدة من العالم، هي الورقة الأدنى من جميع الأوراق... فالفرق بين الإسلام وبين وسائر المدارس... هو أن الإسلام يطلب في نفس هذه الطبيعة معنىً آخر، ويقصد من هذه الهندسة معنى آخر، ويطلب في علم الفلك هذا معنى آخر، وإن الذي يقرأ القرآن الكريم يشاهد هذا المعنى وهو أن المطروح في القرآن من جميع العلوم الطبيعية هو جانبها المعنوي وليس جنبتها الطبيعية" .
لذا فقد أمرنا الإسلام بالتعقل والتدبر في آيات الله الأنفسية والآفاقية، قال تعالى: "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم" .
هذه النظرة _ نظرة الإمام إلى الجامعة _ تحدد لنا دور ووظيفة، ورسالة الجامعة التي يمكن أن تؤديه في مجتمعها، ويمكن لنا أن نستقرأ من أقوال الإمام الأمور التالية:
1. وظيفة الجامعة هي بناء الإنسان
أكد الإمام على أن بناء الإنسان هو القاعدة الأساسية لبناء الأمة والتي كانت منذ بدء الخلق هدف الأنبياء العظام، وبناء الإنسان يجب أن يبدأ بإصلاح ثقافته وتربيته، وكان الإمام يشكو دائماً من التغرب الفكري الموجود في الجامعات والذي تم على يد النظام السابق يقول في ذلك:
"لقد غيروا الأجهزة المسؤولة عن التربية والتعليم، إلى أجهزة مضادة لها، فكانوا يلغون التعليم المفيد للإنسان والمفيد لشعب ودولة معينة، ويصنعون مكانه تعليماً يعاكس مسير الشعب، وكان يقوم على شهوات نفس الفرد، ولكنه كان مخالفاً لمسير الشعب" . "وحاولوا أن لا تنمو طاقاتنا الإنسانية، ولا تنطلق. وحاولا بمختلف الأساليب والخطط وركزوا جهدهم على الإنسان حتى لا ينمو الإنسان" .
من خلال هذه الأساليب روجوا لثقافة الانهزام النفسي حتى بات الإنسان المسلم يصدق أنه لا يقدر على إنجاز أي شيء من دون مساعدة الأجانب.
ولم تمتد أيادي المتغربين إلى الجامعات، إنما استهدفوا أيضاً طلاب الثانويات في عمل مخطط ومرسوم "وكان قد شبابنا الأعزاء والمظلومين أن يتربوا في أحضان هذه الذئاب العميلة للقوى الكبرى، وأن يتصدوا لمناصب التشريع والحكم والقضاء لينجزوا أعمالهم وفق أوامر النظام البهلوي الظالم" .
حتى عندما نقلوا التمدن إلى بلادنا، فإن هذا التمدن لم تتم الاستفادة منه بشكل صحيح، تم الاستفادة منه بطريقة فاسدة، فالسينما مثلاً يمكن أن تعرض فيها أفلاماً أخلاقية وتعليمية، ويمكن أن تعرض فيها أفلاح تحرف الشباب فجميع البرامج التي وضعوها في الثقافة والفن وغير ذلك كانت استعمارية، وأرادوا جعل الشباب وسيلة لتحقيق منافعهم الخاصة وليس من أجل منفعة أوطانهم. لقد جعلوا شبابنا غير مبالين لا يفكرون إلا بفجورهم وتهتكهم، وهم يريدون أن تبقى هذه الثروة العظيمة من جيل الشباب متخلفة وعديمة الفائدة. فأرادوا تدمير جميع القوى التي من المحتمل أن تقف بوجه الجانب، فإذا كانت الأفكار من المحتمل أن تقف في وجه أفكارهم سيحاولون القضاء عليها إن تمكنوا من ذلك.
"لقد عكفوا على دراسة أوضاعنا في النواحي المادية والمعنوية، وأجروا بحوثهم على أفرادنا، ولعل خبراؤهم عاكفون على دراسة هذه الأمور منذ أكثر من مائتي عام، وقد طافوا ودرسوا كافة المجالات والأماكن في إيران ورسموا لها الخرائط وأجروا دراسات تتعلق بوضع الثقافة في البلدان التي يريدون الاستفادة منها، درسوا وضع جامعاتنا وأجروا دراسات وبحوث كثيرة فيما يتعلق بأوضاع جامعاتنا الدينية" .
ونتيجة هذا الوضع السيئ الذي وصلت إلى الجامعات في إيران أكد الإمام على الأمور التالية للخروج من الأزمة :
_ تربية الإنسان المؤمن وذلك بتغيير البرامج بما يتوافق مع النظرة التوحيدية للعلوم.
_ التأكيد على المعنويات قبل الماديات.
_ التغيير يجب أن يبدأ من الفرد وليس العكس.
_ التربية والتغيير يجب أن تنسجم وتتطابق مع الفطرة الإنسانية.
_ التميز الذي ستحرزه الجامعة الإسلامية سيؤدي لأن تكون مرجع للمسلمين في كافة أنحاء العالم.
يرى الإمام أن هذه الأهداف تتحقق إذا ما عكفنا على تربية الجامعيين والحوزويين،
فإذا ما تضافرت جهودهما فإننا سنحصل على الإنسان المؤمن الذي لا يخضع للظلم ولا ينجر وراء المغريات ولا يخاف من التهديدات، فالتقوى عند الإنسان المؤمن هي التي ستمنعه من خيانة بلده وسيعتبر أن ذلك مخالف للتكليف الشرعي، أما إذا وحدنا الجهود بين الجامعيين والحوزويين وأنشأنا الجامعة الإسلامية، سيصبح الجميع يعتقدون بالله وهذا مبني بالدرجة الأولى على تغيير البرامج التي صنفها لنا الآخرون . فالجامعة والحوزة يجب أن يتعهدا تربية الإنسان وهذه مسؤولية كبيرة تقع على عاتقهما، وإذا ما بنينا هذا الإنسان فإن كل الأمور ستصبح معنوية حتى الماديات ستسلك طريق المعنويات، لكن إذا أضعنا الإنسان فإننا سنضيع الماديات أيضاً وسنؤسس لطبقة جامعية شيطانية .
فإذا ما أبعدنا الجانب المعنوي عن الجامعات فقد نخرج طبيباً ومن الممكن أن يكون هذا الطبيب من أفضل أطباء العالم، لكن هذا الطبيب سوف يبحث عن منفعته لا عن علاج المرضى، لأن همه الأساسي منفعته وبالتالي سيقدمها على أي شيء آخر .
نعم باستطاعة المسلمين تأسيس الجامعة الإسلامية المتميزة، من خلال التأكيد على القيم المعنوية في عملية التعليم والتربية، عند ذلك سيتخرج منها الأفراد الذين سيحمون وطنهم وسيعتمدون على أنفسهم وليس على الخارج، وسوف يكون هؤلاء الأفراد مميزين إلى حدٍ أن جميع مسلمي العالم سيأوون إليكم" .
2. الإستقلال وعدم الإعتماد على الخارج
وهي خطوة تهدف إلى استقلال الجامعة وعدم تبعيتها الثقافية، وهي ما كانت عليه حال الجامعة قبل الثورة بل حتى منذ تأسيسها في إيران وحتى بلوغ الثورة منعطفاتها الخطيرة. وقد أولى الإمام الخميني هذا الشأن بعدما كان وجد خطورة الثقافة المتسللة من الخارج، وهو ما كان سيشكل له على الدوام قلقاً غير متناهياً لدرجة شعوره بثقل الخطر الذي يتهدد المجتمع الإيراني بحال استمرت الجامعة بما هي عليه.
يقول الإمام :
"إننا لا نخشى المحاصرة الاقتصادية، ولا نخشى التدخل العسكري، بل ما نخشاه هو التبعية الثقافية، إننا نخاف الجامعة الاستعمارية التي تربي شبابنا لتكون في خدمة الغرب ومن الجامعة التي تربي شبابنا ليكونوا في خدمة الشرق" .
ندرك كلام الإمام الخميني من خلال ما تكشفه العلاقة التاريخية التي ارتسمت منذ اصطدام العالم الإسلامي بالاستعمار ليس في إيران وحسب، وإنما في مجمل الدائرة الجغرافية التي طالتها يد المستعمرين. لقد وعي الاستعمار خطورة دور الجامعة بعدما ووجه بالرفض والمقاومة. هذا الرفض كان جراء موقف الشعوب الرافضة بطبيعتها للآخر الخارجي الساعي إلى نهب خيراتها. لقد كان البديل عن تحمل المواجهة محاولة الاستعمار التغيير الثقافي من الداخل وهو تغيير يستوجب التاسيس على نحو خاص فكانت المدرسة والجامعة خير سبيل في هذا المجال، وقد ساعد في هذا الأمر أن الحكومات والسلطات الوطنية التي نشأت بفعل التدخل الاستعماري أن عملت عبر هؤلاء على المساهمة بفتح الجامعات الخاصة ومن ثم التعاون في بناء الجامعات الوطنية كشكل من أشكال التعاون غير البريء والإيحاء بالدور الحضاري الناتج عن تعميم ثقافة الحضارة ونقلها إلى البلدان المستعمرة بحجة الإسهام في التنمية والابتعاد عن الجهل والتخلف. وساهم في ذلك أيضاً حال التردي والتراجع المشفوع بالأمل في اللحاق بركب الغرب، الأمر الذي أدى إلى الانطلاق من المناخات الملائمة لبناء الجامعة، في حين أن نجاح التجربة الشيوعية في الاتحاد السوفياتي كان قد شكّل موئلاً للاستلهام لدى بعض النخب التي تطلق العنان نحو الدعوة على بديل حضاري آخر بعدما كانت قد وجدت أن التجربة الرأسمالية يشوبها الكثير من العيوب. وبين تلك الرؤيتين كانت الجامعة في عموم العالم الإسلامي قد رزحت عقوداً طويلة دون أن يتحقق النجاح في تحقيق أي من النموذجين، بل على العكس رزحت تلك البلدان تحت نير التبعية واستمر التخلف ولم تلحق الجامعة بركب التطور ولم يلحظ لها تأثير يعتد به في مجال التطوير الاجتماعي، الأمر الذي أدى على استمرار التبعية، مع الحرص الحثيث للدول المستعمرة على الإبقاء على الأطر التي من شأنها تسهيل هيمنتها على تلك الشعوب.
لقد كانت إيران بين تلك الدول التي عانت من التبعية سواء للغرب بشخص شاهها ونظامها وجامعاتها، أو من خلال الأساتذة المنبهرين بتجربة الاتحاد السوفياتي. لقد أدرك الإمام الخميني الدور الخطير الذي تلعبه الجامعة في دوام ارتهان البلدان وخصوصاً إيران لهذه التبعية.
وفي هذا الصدد يقول الإمام الخميني:
"ليس صدفة أن تتعرض مراكز التربية والتعليم في الدول بما فيها إيران من الابتدائية حتى الجامعة لهجوم المستعمرين وخاصة الغربيين وأمريكا والاتحاد السوفياتي أخيراً، وكانت ألسنة وأقلام المتغربين والمتشرقين في الجامعة طيلة تأسيسها، وخاصة في العقود الأخيرة، قد قدمت الخدمة الكبيرة للغرب والشرق" .
إزاء ذلك، ومن خلال معرفة وإدراك الإمام لحيثية الدور التاريخي الذي اضطلعت به الجامعة، كان لا بد من الدعوة إلى استقلالها، وتكييفها مع أصالة الإسلام كدين عالمي وبما ينبغي أن يعبر عن رؤيته الحضارية التي استلهمها من منطلقات الإسلام في تصوره لبناء المجتمعات.
ليست الرؤية التاريخية للإمام هي ما دفعته نحو الدعوة إلى استقلال الجامعة وإنما لبقاء تجذر دورها الذي استمر ولو بنحو ضئيل بعد الثورة. يقول في هذا الصدد:
"مع الأسف وبعد ثلاث سنوات على انتصار الثورة، والمقاومة ووقوف الجمهورية الإسلامية إزاء الشرق والغرب ومدارسهم المنحرفة، ووفاء هذه الجمهورية للإسلام الذي يرفض جميع التبعيات، فلا نزال نعاني من المجموعات والفئات المرتبطة بأحد القطبين والمستسلمة للمدارس المنحرفة والمرتبطة بإحداها" .
غاية الأمر أن الدعوة لاستقلال الجامعة لا تبنى على التمني أو لمجرد الوعي الناتج عن خطورة الاستمرار بالتبعية، وإنما من خلال خطوات أخرى لا بد لها أن تسير وفق رؤية وقواعد متدرجة لا بد من العمل عليها لتحقيق هذا الاستقلال.
من مظاهر الارتباط بالغرب الرأسمالي التي يقدمها الإمام الخميني عن واقع إيران قبل الثورة الإسلامية، هي تدمير الجيل الشاب، وانعدام التنمية، وتدمير الملكات الفكرية والإنسانية والتبعية الاقتصادية ونهب بيت المال وغير ذلك من مظاهر لم تكن الحضارات السابقة التي تعامل معها الإسلام قد وصلت إلى هذا الحد، حين تفاعل الإسلام مع الحضارات الفارسية واليونانية وغيرها دون أن تتغير الخصائص الذاتية للمسلمين. ولم تؤدي إلى تدمير ثقافتهم سواء كان هذا الأمر جراء الروح الثقافية السائدة والتي بقيت هي المحرك للمجتمعات الإسلامية، أو جراء عدم وصول تلك الحضارات إلى ما وصلت إليه الحضارة الغربية من قدرة على إلغاء الخصوصيات الثقافية إبقاءً لعلاقتها القائمة على الاستتباع الحضاري.
الإمام الخميني يرى "أن الثقافة هي أساس الشعب وأساس استقلاله وهو ما حاول المستعمرون العمل عليه لمنع بناء الإنسان فخططوا للتعليم بشكل لا يحدث أي نمو علمي، ومارسوا دعاياتهم كي يخاف الشعب الإيراني من نفسه ولا يعتمد على ذاته. لقد أشرف الأجانب على الجيش وعلى النفط وغسلوا العقول، أرادوا أن لا يصلح الإنسان في عموم دول الشرق لأنه لو ظهر الإنسان فإنه لا يستسلم للظلم وسوف لن يقدم مصالح بلاده للأجنبي" .
لقد اعتمد الاستعمار في سبيل ذلك على وسائله الخاصة بهذا المجال فضلاً عن مساعدة الحكومات والأنظمة التابعة. وفي معرض استدلاله يقدم الإمام الخميني أمثلة من واقع إيران قبل الثورة عن عدم الاستقلال يقول: "يوجد في بلادنا بين 45 إلى 60 ألف مستشار أمريكي وأن قدرة البلاد بيدهم ولو كانت إيران قوية ومستقلة لما سمـحت بذلك" . وقد ساعد على تفاقم دور النفوذ الاستعماري إعانة النظام وارتهانه إلى الحد الذي باتت التنمية في البلاد معدومة، فالاقتصاد بأجمعه مدمر ويعاني من الانهيار. لقد كانت الحكومة التابعة لنظام الشاه توهم الناس بإصلاح الاقتصاد فكان برنامجها هو التدمير، فقط "لقد أقرت البرامج الإصلاحية باسم إصلاح الأراضي سوقاً لأمريكا التي تمتلك فائضاً من القمح، وهي التي تريد إبقاء الزراعة في إيران وجميع الدول الأخرى التي تقع تحت نفوذها مدّمرة ومنهارة حتى تبقى تابعة، لقد وصلت البلاد إلى الحد الذي تستورد فيه كل شيء من الخارج، بعدما تم القضاء على تربية المواشي، وتم القضاء على الزراعة خلال خمسة عقود في حين كان يتعين على إيران تصدير ملايين الأطنان" .
وقد حاول الاستعمار نهب بيت المال إلى حد صراخ الحكومة بأن الميزانية قليلة علماً أن عائدات إيران لم تكن قليلة سيما ميزانية النفط التي كانت تتسرب بفعل خيانة الملك الذي أراد صب ثروة النفط في حلقوم الأميركيين. يعطي الإمام الخميني بعض الشواهد على هذا النهب بقوله "لاحظوا أنهم (أي حكومة الشاه) اشتروا أسلحة بقيمة 18 مليار دولار لكي تبني أمريكا قاعدة لها للوقوف بوجه المنافس السوفياتي، إنهم يبنون قاعدة لأمريكا بأموال هذا الشعب" .
وإن هذا الحال لم يكن ليتم فقط وفق هذه الأساليب وإنما تعزز بفعل التدمير المنهجي لثقافة المجتمع عبر تغيير الأجهزة المسؤولة عن التربية والتعليم إلى أجهزة مضادة لها. بل إن كل الأساليب والوسائل التي تعمل على التنشئة باتت تسير وفق الرؤية التي تصب في مصلحة الغرب. هذه الوسائل يجدها الإمام الخميني في الوسائل والمناهج التعليمية التي تقوم على شهوات الفرد وانحرافاته فضلاً عن المجلات التي كان ينبغي لها الوقوف على مصالح المجتمع وتربية الجيل الشاب ومثله يقال عن السينما وانتشار مراكز الفساد التي كادت تقضي على أصالة الشباب والتي باتت موجودة في طهران أكثر من وجود المكتبات .
يعرّج الإمام الخميني من وصف حال إيران، إلى وصف حال البلدان الإسلامية التي تعاني وبسبب ضعف الإدارة وصفاً مؤسفاً، هو ما يتطلب وفق رأيه تقديم برامج ومشاريع تصون مصالح المحرومين والمستضعفين يقدمها علماء الإسلام والباحثين والخبراء المختصين لإحلالها محل النظام الاقتصادي غير السليم المخيم على العالم ومواجهة الاقتصاد الرأسمـالي والاشتراكي وهي بنظر الإمام في حال قدمت تعتبر أكبر هدية وبشرى لانعتاق الإنسان من أسر الفقر والفاقة .
وبما أن المعركة هي معركة حضارية بامتياز ولا تختص ببلاد المسلمين وحدهم، يرى الإمام الخميني إن إحدى القضايا المهمة جداً التي تقع على العلماء والمختصين هي المواجهة الجدية مع الثقافتين الاقتصاديتين الظالمتين ومكافحة السياسات الاقتصادية الرأسمـالية والاشتراكية في المجتمع، رغم ابتلاء جميع الشعوب بها والتي فرضت العبودية الجديدة على جميع الشعوب بحيث أصبحت غالبيتها اليوم ترتبط بأسياد القوة والمال أصحاب القرار حول شؤون الاقتصاد العالمي الذين انتزعوا زمام المبادرة من الشعوب رغم مصادرها الطبيعية وأراضيها الخصبة والشاسعة بأنهارها وبحارها وغاباتها وثرواتها الطائلة وأمسكوا بعصب الاقتصاد العالم بإيجاد المراكز الاحتكارية المتعددة الجنسيات وربطوا جميع طرق الإنتاج والتوزيع والعرض والطلب وحتى أعمال الصرف والتسعير بأنفسهم وأقنعوا الشرائح المحرومة بأفكارهم وأبحاثهم المصطنعة، على وجوب العيش تحت نفوذهم وأنه لا سبيل للحفاة والفقراء سوى العيش بفقر وفاقة في حين ضاقت الدنيا بقلة محدودة بسبب الإسراف والتخمة والتبذير وهذه مأساة فرضها الطغاة على البشرية .
إزاء ذلك كان الإمام الخميني حريصاً على حث المثقفين الاضطلاع بدور حضاري إنساني وعالمي فهو يقول "يجب على المثقفين ومن خلال الوعي والعلم أن يسلكوا الطريق الصعب لتغيير عالم الرأسمـالية والشيوعية وأن يرسمـوا الطريق للشعوب الإسلامية المطلوبة ولشعوب العالم الثالث" .
هكذا يفهم من دعوة الإمام الخميني استقلال الجامعة عن الغرب أو الشرق أنها إحياء لتلك العلاقة بين الإيمان والعقل، بعدما كان الغرب والشرق قد جافيا الدين في إطار تحولهما الحضاري إلى البعد المادي الذي طبع تلك الحضارة، انطلاقاً من النظرة المادية للإنسان ومحوريته في الكون فتحولت النظرة المادية إلى طريقة حياة تحكم سلوك الإنسان وعلاقته الاجتماعية وسلوكه الاستهلاكي انطلاقاً من منظومة قيمية مادية صرفة. في الشرق الشيوعي أخضعت الدولة المجتمع إلى أيديولوجيتها المادية، وفي الغرب بدت الدولة صورة مطابقة في مؤسساتها ومصالحها وتشريعاتها وقوانينها إلى المنظومة القيمية التي طبعت الأفراد لكي تكون متناسبة مع قناعاتهم المادية. إن محاولة الإمام الخميني معاودة الربط بين الإيمان والعقل هو من قبيل الدعوة على استعادة رؤية الإسلام للتوازن المطلوب بين ما هو روحي وما هو مادي ومن ثم توجيه الرؤى نحو تقديم الإنجاز الحضاري الخاص للتأكيد أن معيار التطور الحضاري وإن قام لدى الغرب على تلك القطيعة بين الإيمان الديني والعقل، فإنه لا يعبر بالضرورة عن السنن الكونية الحضارية حيث قامت الحضارة الإسلامية في المراحل السابقة على هذه المزاوجة، في حين تحفل كتابات مفكري الغرب أنفسهم منذ قيام النهضة الأوروبية بنقدها الفهم اللاهوتي للدين المسيحي في القرون الوسطى وعجزه عن تقديم إجابات مقنعة إزاء الاكتشافات العلمية المذهلة للعلماء وعدم قدرة المسيحية على مواكبة التطور. لقد خضعت هذه العلاقة بين الدين والعلم في الغرب لقمع وانعزال متبادل قمع الدين لنتاجات العلم في العصور الوسطى وهو ما أعاق حرية العقل والتفكير وعزل الدين وانعزاله وعدم مواكبته للتطور الذي أصبح معقود اللواء للعقل المادي.
في حين تختزن آراء الإمام الخميني الدعوة إلى إعادة الالتصاق بين الدين والعلم فلا قمع للعلم باسم الدين ولا حالة إزدراء من قبل العلم للدين وعزله أو دعوة لانعزاله عن الواقع الاجتماعي والحضاري، وهذه المزاوجة هي دعوة حضارية أيضاً تطرح في مقاربة الرؤى العالمية على المستوى التنظيري ومن ثم إشفاعها بتقديم النموذج الحضاري الذي يمكن لإيران الإسلام أن تقدمه كتجربة للاستلهام بشكل مغاير لحضارة الغرب في إدعائها العالمية، في حين تتغذى على نهب خيرات الشعوب التي يراد لها البقاء على حالها طالما تؤمّن مصالح الغرب. في حين تزداد الهوة الحضارية بفعل اقتناع المسلمين بهذا العجز الحضاري، والرضى بمشاركة المستعمر جراء افتقاد الوعي الذاتي وإعانته على النهب من خلال القعود والتسليم بهذا العجز.
قد يسود الاعتقاد أن دعوة الإمام الخميني هذه للاستقلال عن الشرق أو الغرب، ما يخالف بعض ما ورد في السنة النبوية عن طلب العلم ولو كان في بلاد الصين وهي بلاد لم تكن بطبيعة الحال تدين بالدين الإسلامي، وإن التجربة التاريخية للمسلمين في بناء حضارتهم الخاصة إنما كانت بفعل الاحتكاك بغيرهم. فهناك بعض المفكرين ممن يعبرون عن ذلك بالقول أن العرب مع بداية الدعوة وبعدها لم يكونوا يمتلكون تراثاً حضارياً خاصاً بهم في المجالات الإبداعية التي تعتمد على الإنسان مثل العمارة أو النحت، في حين أن المسجد النبوي الذي أسسه الرسول(ص) بعد الهجرة كان يتسم بالبساطة ولم تعرف له مئذنة ولا قبة كما هي حال مساجد اليوم. كما أن الجزيرة العربية كانت تخلو من الأبنية الفخمة كما هي حال الفرس واليونان، وإن العرب لم يستطيعوا بناء حضارتهم إلا بعد الاحتكاك بالفرس والروم في بلاد الشام، وإن سيادة روح التسامح التي تبناها خلفاء بني العباس لعبت دوراً كبيراً في دفع المسلمين إلى تقبل مفاهيم الحضارات الأخرى خاصة بعد عصر الترجمة ومزج هذه المفاهيم بالروح الإسلامية، ومن ثم تقديم حضارة جديدة خاصة بالمسلمين للعالم غير الإسلامي. ومن ينظر إلى زخرفة المساجد يجد فيها روحاً فارسية جاءت انعكاساً لروح الحضارة الفارسية في الفرس الذين اعتنقوا الإسلام. في حين أن فخامة المآذن والقباب والعمارة مأخوذة من التراث اليوناني والروماني. ويلاحظ في هذا الصدد اختلاف المساجد في فخامتها
بين العصرين الأموي والعباسي إذ إن المساجد في العصر العباسي تحمل في فخامتها الأبهة الفارسية .
قد يصح ما ورد في هذه السطور من إدعاء، ولكنه يفتقد إلى دقة المقاربة العلمية في حال التعميم أو المقارنة مع عصرنا الراهن حيث تسود أزمة العلاقة الحضارية مع الغرب، فالمسلمون سبق لهم الاستفادة من الحضارات الأخرى، ولكنهم أبدعوا في مجالات بعض العلوم وتفردوا بها كالطب والفلك والرياضيات والبصريات وغيرها. وهم حين الاحتكاك مع الحضارات الأخرى، لم يشعروا بذلك العجز الحضاري أمام الحضارات المحيطة أو البعيدة. كما إن تلك الحضارات لم تكن تحمل في ذاتها دعوة عالمية على غررا الغرب كما هو اليوم حيث دأب الغرب على توظيف الحضارة في تورية أيديولوجية تستهدف تهذيب النهب وتسويق الغلبة. هذه الأيديولوجية قسمت العالم إلى عوالم أولى وثانية وثالثة، وعلى أساس هذا التقسيم شرع بإقامة نظامه العالمي منذ بداية التاريخ الاستعماري ووفق قاعدة المركز الذي هو الغرب ومن ثم الأطراف وفق مفهومه النابع من ذهنية تاريخية قامت على مفاعيل الثروة والقوة وتغذت من دائماً من المادة، فكانت عالميته بحاجة وجودية دائمة لا يستطيع الغرب الحياة بدونها، وهي حاجته لخارج ينهبه بعدما بنى ذاته كمؤسسة عالمية للنهب والسيطرة وفق برنامج عمل ثابت في تحديده للأهداف المتناسبة مع الثروة المفقودة في الداخل التي تدفعه دوماً نحو الخارج، ومن أجلها استباح ثروات العالم وخص بها نفسه دون سواه .
من هذه الرؤية لا يمكننا ان نعد دعوة الإمام الى استقلال الجامعة دعوة تستبطن الإنغلاق الفكري والثقافي وعدم الإفادة أو الإستفادة من تجارب الإمم، بل أتى هذا التأكيد على استقلال الجامعة بإعتبارها النواة التي تتشكل منها الدولة، لذا سعى الإمام إلى تأمين استقلالها الفكري والعلمي، لأن ذلك من شأنه أن يؤمن استقلال الأمة، وهذا الأمر يبدأ من الاستقلال الفكري "لو كانت ثقافة مجتمع ما مرتبطة بالثقافة المخالفة وتستلهم منها، فإن الأبعاد الأخرى لذلك المجتمع ستميل بالضرورة إلى الجانب المخالف... وتفقد وجودها في جميع الأبعاد. إن موجودية أي مجتمع واستقلاله ينشأ من استقلاله الثقافي، وإن من السذاجة أن نتصور بإمكانية تحقيق الاستقلال في الأبعاد الأخرى، أو في واحد منها مع وجود التبعية الثقافية" .
من هذه الرؤية كان ينظر الإمام في ساحة الصراع إلى أن المستكبرين استهدفوا ثقافة المجتمعات وإذا ما تمت السيطرة على الثقافة فإن هذه المجتمعات ستصبح تابعة لهم وتؤمن منافعهم لذلك كان الإمام يتواضع للسواعد التي تعمل على إحداث أي نوع من أنواع الاستقلال في الأمة.
"إنني أقبل أيدي وسواعد كل الذين يعملون بإخلاص ودون إدعاء من أجل استقلال البلاد واكتفائها الذاتي"
كان الإمام يعتقد أن السير في هذا الطريق وإن كان طويلاً لكنه في نهاية المطاف سوف نجد أنفسنا نقف على أقدامنا، مستقلين لا نحتاج إلى الشرق ولا إلى الغرب.
3. الجامعة النموذجية
يأمل الإمام بصفته الأب لهذه الثورة والدولة معاً أن يتحقق اليوم الذي نحصل فيه على الجامعة النموذجية، وقد اعتبر ان هذه الجامعة يجب تتمتع بالصفات التالية:
_ ان تعمل على تبني وترويج الثقافة الإسلامية في الجامعات، هذا التأكيد سينعكس على إيمان الفرد بقدراته الذاتية على النهوض.
"ينبغي بكم أيها الطلبة الجامعيون الأعزاء أن تفكروا بكيفية التخلص من هذا التغرب والعثور على ما ضيعتموه، إذ إن الشرق (المسلم) ضيع ثقافته الأصلية، وينبغي بكم يا من تريدون أن تكونوا مستقلين وأحراراً أن تقاوموا، ويجب على جميع الفئات أن تبني على أن تكون هي بنفسها" .
ويبين الإمام أن الاستعمار عمل ليس فقط على أن لا تحتفظ الجامعة بثقافتها الدينية وإنما حاولوا وضعها في مقابل الدين وذلك بوضع علماء الدين مقابل الجامعيين ووضع الجامعيين مقابل علماء الدين .
فالإمام يرى أن كثير من المصائب جاءت نتيجة بعد الحوزة والجامعة عن بعضهما البعض، فلم يسمحوا لهم حتى بالالتقاء وجعلوهما ينظران إلى بعضهما بعين الريبة، وهل يمكن لشعب يرتاب أبناؤه أن يفعل شيئاً.
"والمصائب التي عانينا منها ونعاني منها الآن كانت لأننا بعيدون عن بعضنا، فنحن وإياكم لم نتحدث معاً في محفل من المحافل لنرى ما نقوله نحن وما تقولونه أنتم، لقد كنا بعيدين عن قضاة العدلية، كنا بعيدين عن الجامعة، لقد جعلوا الجامعيين على وضع دفعنا لإساءة الظن بهم، وجعلونا بوضع جعل الجامعيون يسيئون الظن بنا، لقد كنا متفرقين" .
_ قطع الاحتياج العلمي والعملي بتأمين أفراد على كافة المستويات في مجالات الاختصاص:
"يجب أن تكون الجامعة مستقلة لا تحتاج لعلم الغرب، علماؤنا يجب أن لا يخافوا من الغرب" . ينبغي أن تعمل الجامعات على تأمين التخصص العلمي الذي يحتاج إليه المجتمع "إذا خلت الجامعات من العلماء والمتخصصين، فإن الأجانب والنفعيين سيمدون، كالسرطان، جذورهم إلى كل أرجاء البلد ويقبضون على زمام شؤوننا الاقتصادية والعلمية ويسيطرون عليها" .
وفي موضع آخر يقول:
"أهم عامل في بلوغ الاكتفاء الذاتي والبناء هو تنمية مراكز العلم والبحث وتركيزها وتوفير الإمكانات والتشجيع بكل جوانبه للمخترعين والمكتشفين والقوى الملتزمة والمتخصصة مما لديهم الجرأة على مكافحة الجهل، وممن حرروا أنفسهم من قيد النظرة الأحادية نحو الغرب والشرق، وأظهروا قدرتهم على إقامة البلد على قدميه" .
_ التأكيد على خلق مناخ آمن في الجامعات.
أكد الإمام على توفير مناخ هادئ في الجامعات حتى يستطيع المفكرون طرح أفكارهم في أجواء سليمة وحتى يتسنى لمفكرينا أن ينقلوا أفكارهم إلى الأجيال الجديدة ليتخرجوا فيما بعد علماء ومتخصصين، فمن الطبيعي أن الجو المسموم يمنع الأساتذة والمفكرين من تربية الطلاب بطريقة صحيحة في اتجاهي التخصص والتهذيب.
"لكي نصل إلى تطور الأفكار وإلى جامعة جيدة وإسلامية، لا بُدَّ من استتباب الهدوء فيها، وإذا كانت هناك أفكار وعقائد متنوعة ومتعددة _ وهي موجودة فعلاً يراد لها أن تطرح على الطلبة، فلا بد أن يهيأ جو مناسب ليستطيع أصحاب تلك الآراء من عرضها في محيط هادئ وبحضور المفكرين الإسلاميين»
بهذه المواصفات ستكون الجامعة مفيدة للأمة جمعاء، جامعة تحوي مراكز التخصص العلمي لصنع الإنسان بكل ما للكلمة من معنى، الإنسان المتحضر والمتعلم والمتخصص، ويرجو الإمام أن يأتي هذا اليوم الذي سيتوجه فيه الطلبة من كل أماكن العالم للدراسة في إيران ، حينها ستتحول الجمهرورية الإسلامية الإيرانية إلى مركز الإشعاع الفكري والحضاري في العالم وستستعيد الأمة الإسلامية أوج تألقها، عندما تملأ الهوة التي أرساها الغرب بيننا وبين ثقافتنا وواقعنا.
https://ayandehroshan.ir/vdcg.z9qrak9xxpr4a.html
ارسال نظر
نام شما
آدرس ايميل شما