تاریخ انتشاردوشنبه ۱۶ شهريور ۱۳۹۴ ساعت ۰۸:۴۱
کد مطلب : ۱۲۳۱
۰
plusresetminus
غيبة الإمام المهدي(عج) وظهوره
بين الغيب المطلق والشروط الموضوعية
محمد الشوكي
مقدمة
الحمد لله الذي شد الناس بحبليه، وعصمهم من الضلال بثقليه، والصلاة والسلام على خيرة أنبياءه ومرسليه، المصطفى محمد، وعلى أهل بيته الطيبين الأخيار، لا سيما نور الله الذي لا يخبو، وسيفه الذي لا ينبو، الإمام الحجة القائم المهدي(عج).
مما يلفت الإنتباه في السنوات الأخيرة الماضية ازدياد الإهتمام بقضية الإمام المهدي(ع) على المستوى الشعبي والنخبوي، فنجد اهتماماً شعبياً كبيراً بمسألة الإمام المهدي(ع) يوازيه اهتمام ملحوظ من قبل المؤسسات العلمية والإعلامية.
وهذا الإهتمام ليس ناشئاً من فراغ وإنما له مناشئ متعددة، من أهمها الأوضاع العالمية الحرجة والمتعثرة على أكثر من مستوى، والأزمات السياسية والإقتصادية والإجتماعية والنفسية المتعددة التي تعصف بعالمنا المعاصر، والتي لم يصل العالم حتى الآن إلى حلول ناجعة لها، وليس في الأفق من أمل تنشدّ إليه قلوب الناس، مما أغرق الكثير من النفوس ببحر من اليأس والإحباط، وجعلها تتجه إلى الحل الإلهي الذي أقصته من مفكرتها لعقود طويلة. هذا بالإضافة إلى المتغيرات الكثيرة التي طرأت على الساحة العالمية.
ولعل من أبرز تلك المتغيرات الدولية سقوط النظرية الشيوعية بسقوط الإتحاد السوفيتي من جهة، والهزات العنيفة التي تعرضت لها الرأسمالية الغربية خصوصاً في جانبها الإقتصادي الذي يمثل أحد أعمدتها المهمة من جهة ثانية، مما زعزع قناعات الكثير من الناس بالنظريات الأرضية وقدرتها على إسعاد الإنسان، وجعلها تتطلع إلى حلول أخرى أهمها هو الحل الديني.
وبما أن الإسلام يعتبر من أهم المنافسين في الساحة العالمية، ولدية رؤية خاصة بالمستقبل، وبما أن قضية الإمام المهدي(ع) تعتبر قضية مفصلية في رؤية الإسلام للمستقبل، فسوف يكون الإهتمام بها أمراً منطقياً يتسق مع طبيعة الأمور.
هذا بالإضافة إلى التحولات السياسية الإقليمية التي حدثت في المرحلة الأخيرة، ويمكن أن نلحظ منها بروز المذهب الشيعي قوياً في الساحة الإقليمية لعوامل عديدة لا مجال للخوض فيها، وزوال عصور الكبت والقمع الذي تعرض له أتباع مذهب أهل البيت(علیهم السلام) في مناطق عديدة من العالم الإسلامي، مما أتاح لهم ـ في ظل المتنفس الذي اكتسبوه، وفي ظل التطور الهائل في وسائل الإتصال ـ فرصة كبيرة ليفصحوا عن عقائدهم وسائر شؤونهم ومتبنياتهم الفكرية والثقافية، والتي يحتل فيها الإمام المهدي(عج) مركزية خاصة.
ولكن ورغم هذا الإهتمام المتزايد بالمسألة المهدوية والذي يعتبر مؤشراً إيجابياً مهماً في مقاسات عديدة، إلا إنني أستطيع القول أن ما بذل من جهود في المستوى المعرفي والثقافي والتربوي والتعبوي الذي يرتبط بهذا الجانب تعتبر جهوداً متواضعة جداً، ولا زال الكثير من النقاط المهمة في القضية المهدوية مبهمة وغامضة ولم تدرس بشكل جيد. ولو أردت أن أسرد تلك النقاط ومواضع الغموض فيها، وعدم تغطيتها عبر دراسات علمية جادة لطال بنا الأمر.
ومن بين تلك النقاط المركزية في القضية المهدوية مسألة الدور البشري والظرف الموضوعي في قضية الإمام المهدي(عج). فهل قضية الإمام المهدي(ع) قضية غيبية مطلقة لا دخل للبشر فيها، أو أنها خاضعة للظروف الواقعية والشروط الموضوعية؟.
ولا يخفى أن كلاً من الفرضين تترتب عليه آثار مهمة وخطيرة، وتبدو الإجابة عليهما مركزية في القضية المهدوية.
أهمية موضوع البحث
إن الموضوع الذي نريد أن نعالجه خطير وحساس جداً، والنتائج التي يتمخض عنها تترك آثاراً كبيرة على كيفية التعامل مع قضية الإمام المهدي(عج).
فلو كانت النتيجة التي نتوصل إليها هي غيبية القضية المهدوية المطلقة، وأن الإمام المهدي(عج) في غيبته وظهوره وإقامة دولته العادلة غيب من غيب الله لا دور للناس ولا للظروف الموضوعية فيه، فإن ذلك سوف يعفينا من أي مسؤولية تجاهه، ويدعونا إلى الركون والسكون وعدم السعي للتمهيد له، لأن فعلنا وعدمه سيكون سواء، حيث لا دخل لنا في أي شيء من شؤون قضيته, ولا نستطيع أن نعجل أو نؤجل ظهوره. وسيحوّل هذا الفهم مسألة الإنتظار إلى حالة سلبية غير فاعلة في الأمة، تماماً كمن ينتظر شخصاً غاب عنه ولا يعلم بخبره، ولا يستطيع أن يفعل شيئاً للعثور عليه وإعادته إلى وطنه، فإنه سوف يتركه وينشغل بإموره، وإذا ما ذكره فإنما يذكره في خواطره.
أما لو توصلنا إلى النتيجة الثانية، وآمنا بأن قضية الإمام المهدي(عج) مرتبطة بالظروف الخارجية، وأن للناس دوراً في غيبته وظهوره وتحقيق مشروعه، وأن بإمكاننا أن نعجل من ظهوره، وأن نهيئ الظروف الموضوعية له، فإن ذلك سوف يرتب على عواتقنا مسؤوليات كثيرة، ويدعونا للعمل من أجل تقريب ظهوره، والتمهيد لثورته التغييرية الكبرى، ويجعل انتظارنا له انتظاراً إيجابياً فاعلاً، مليئاً بالحركة والعنفوان، ومبتعداً عن الركون والسكون والسلبية.
فإذاً نرى أن النتائج تختلف اختلافاً جذرياً حاداً باختلاف قناعاتنا بكلا النظريتين، وأن كلا الفرضيتين تنتج سلوكاً مغايراً للأخرى. وذلك طبيعي، لأن السلوك البشري العام يتلون بلون القناعات الفكرية للأفراد والمجتمعات, ومن هنا تجد أن فكرة واحدة قد تكون باعثة على الحركة والفاعلية، وقد تكون باعثة على السكون والخمول، تبعاً للزاوية التي ينظر منها إليها، وطبقاً لطبيعة فهمها ودركها.
وهذا قانون عام غير مختص بقضية الإمام المهدي(عج)، فالدين مثلاً تارة ينظر إليه بعض الأشخاص أنه شأن عبادي طقوسي فردي لا علاقة له بالأمور العامة، فحينئذ لا يسعى لتحكيمه في واقع الناس بكل تفاصيله وجزئياته، ولا يتفاعل مع الدعوة إلى إقامة نظام يقوم على أساس الدين.
وتارة أخرى ينظر إليه شخص آخر على أنه شامل لأمور المعاش والمعاد، وأنه دستور حياة يصوغ الحياة البشرية ويقنّنها ويضع لها أحكامها، فحينئذ يسعى إلى تحكيمه في أرض الواقع، ويتفاعل مع كل دعوة تهدف إلى إقامة مشروع ديني يحكم حياة الناس. فإذاً رؤية الإنسان لها دور كبير في اتجاه حركته في الحياة بصورة عامة، وكذلك فيما يرتبط بقضية الإمام المهدي(عج).
من هنا فإننا سوف نعالج كلا النظريتين, لنرى أيهما قابلة للإثبات طبقاً للنصوص الشريفة.
الإفتراض الأول: غيبية القضية المهدوية
ربما نلحظ في كلمات الكثيرين أن قضية الإمام المهدي(عج) قضية غيبية سواء في جانب الغيبة أو في جانب الظهور. فإذا كان كذلك فإن معطيات هذه القناعة سوف تنعكس على واقع الفكر والسلوك. فعلى المستوى الفكري لا يلزمنا أن نبحث عن غيبته وأسبابها وفلسفتها، ولا عن ظهوره وشرائطه وظروفه. وعلى المستوى العملي سوف لن نكون مكلفين بإيجاد أي من ظروف الظهور أو شرائطه.
وربما يستند هذا الفهم إلى بعض النصوص الدينية التي تعرضت لغيبية القضية المهدوية، كالنصوص التي طبّقت عنوان الإيمان بالغيب على الإمام المهدي(عج)، كقول الصادق(ع) في تفسير قوله تعالى: (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) قال: «المتقون شيعة علي(ع)، والغيب هو الحجة الغائب».
وعنه أيضاً في خبر آخر في تفسير الغيب في الآية الكريمة قال: «من أقر بقيام القائم
عليه السلام أنه حق». وغيرها من الأخبار التي فسرت الآية به(ع) أو جعلته من جملة مصاديقها.
وكذلك في مثل قول الصادق(ع) لعبد الله بن الفضل الهاشمي: «إن هذا الأمر من أمر الله تعالى، وسر من سر الله، وغيب من غيب الله، ومتى علمنا أنه عز وجل حكيم صدّقنا بأن أفعاله كلها حكمة، وإن كان وجهها غير منكشف». أو كقول الإمام الحسن العسكري(ع) لأحمد بن إسحاق: «يا أحمد بن إسحاق: هذا أمر من أمر الله، وسر من سر الله، وغيب من غيب الله، فخذ ما آتيتك واكتمه وكن من الشاكرين تكن معنا غداً في عليين».
فربما يستند البعض إلى هذه النصوص ليجعل القضية المهدوية في دائرة الغيب المطلق ويفصلها عن الواقع وشروطه الموضوعية.
ولكن ذلك غير تام، لأن غاية ما يستفاد من هذه النصوص الشريفة أن لقضية الإمام المهدي(عج) بُعداً أو أبعاداً غيبية، كالإقرار بالقائم وهو غائب عنا فإنه إيمان بالغيب كما يستفاد من الرواية الثانية، أو أن الحجة ذاته من الغيب لأنه غائب عن الحواس كما يستفاد من الرواية الأولى، أو أن العلة الحقيقية لغيبته من الغيب، لأنها لا تظهر بشكلها الكامل إلا بعد ظهوره كما يستفاد من الرواية الثالثة وسياقها. ونحن لا ننكر أن قضية الإمام المهدي(عج) تتضمن أبعاداً غيبية كثيرة.
ثم أنه ليس كل قضية غيبية لابد أن تكون منفصلة عن الواقع وعن شروطه الموضوعية، ولا تنافي بين الإثنين، فكثير من الأمور الغيبية مناطة بالشرائط الخارجية، كقضية الرزق والبلاء والأجل و ما شاكلها من أمور أخرى. فإن الأجل مثلاً مسألة غيبية، ولكن الروايات الشريفة أناطتها بالشرط الخارجي، فنرى مثلاً أن صلة الرحم تطيل العمر وتنسئ الأجل، بينما قطيعتها تقصر العمر. وهكذا الرزق المستقبلي يعتبر غيباً من الغيب، ولكن هناك شروط خارجية لزيادة الرزق ونقصانه، وهكذا.
الإفتراض الثاني: ارتباطها الشرائط الموضوعية
وهو افتراض أن قضية الإمام المهدي(عج) على رغم أبعادها الغيبية الكثيرة إلا أنها غيرمنفصلة عن الواقع الخارجي وشروطه الموضوعية. وهذا ما يظهر من كلمات بعض العلماء كالشهيد الصدر وغيره. يقول قدس الله نفسه الزكية في الجواب على سؤال: لماذا لم يظهر الإمام المهدي(عج) طيلة هذه المدة ما نصه: «والجواب: أن كل عملية تغيير اجتماعي يرتبط نجاحها بشروط وظروف موضوعية لا يتأتى لها أن تحقق هدفها إلا عندما تتوفر تلك الشروط والظروف.
وتتميز عمليات التغيير الاجتماعي التي تفجرها السماء على الأرض بأنها لا ترتبط في جانبها الرسالي بالظروف الموضوعية، لأن الرسالة التي تعتمدها عملية التغيير هنا ربانية، ومن صنع السماء لا من صنع الظروف الموضوعية، ولكنها في جانبها التنفيذي تعتمد الظروف الموضوعية ويرتبط نجاحها وتوقيتها بتلك الظروف. ومن أجل ذلك انتظرت السماء مرور خمسة قرون من الجاهلية حتى أنزلت آخر رسالاتها على يد النبي محمد(ص)، لأن الارتباط بالظروف الموضوعية للتنفيذ كان يفرض تأخرها على الرغم من حاجة العالم إليها منذ فترة طويلة قبل ذلك.
والظروف الموضوعية التي لها أثر في الجانب التنفيذي من عملية التغيير، منها ما يشكل المناخ المناسب والجو العام للتغيير المستهدف، ومنها ما يشكل بعض التفاصيل التي تتطلبها حركة التغيير من خلال منعطفاتها التفصيلية.
وقد جرت سنة الله تعالى التي لا تجد لها تحويلاً في عمليات التغيير الرباني على التقيد من الناحية التنفيذية بالظروف الموضوعية التي تحقق المناخ المناسب والجو العام لإنجاح عملية التغيير، ومن هنا لم يأت الإسلام إلا بعد فترة من الرسل وفراغ مرير استمر قروناً من الزمن».
الرأي المختار
إننا نميل إلى الإفتراض الثاني، ونعتقد أن قضية الإمام المهدي(عج) على رغم أبعادها الغيبية الكثيرة غيرمنفصلة عن الواقع البشري ولا نائية عن الظروف الموضوعية، فإنها كأي مشروع تغييري في المجتمع يرتبط بمجموعة من العوامل الفكرية والإجتماعية والسياسية والبشرية. فهي ليست قضية ماورائية (ميتافيزيقية) بحتة، وإنما هي مرحلة تطورية في مسار التاريخ الإنساني لها مداليل ومنجزات ثقافية وسياسية وإقتصادية وإجتماعية وأخلاقية متنوعة، وتمثل تحولاً إنسانياً ودينياً واجتماعياً عظيماً في التاريخ البشري. وكذلك هي خاضعة للسنن الإجتماعية الإلهية ومتأثرة بها، وهذا ما سنشير إليه في النقطة التالية.
قضية الإمام المهدي(عج) رؤية سننية
مما لا ريب فيه أن لله تعالى سنن وقوانين تاريخية إجتماعية سيّر عليها البشرية منذ يومها الأول وإلى آخر لحظة في حياتها. فقد شاءت حكمة الله تبارك وتعالى أن يكون هذا العالم عالم الأسباب والمسببات، وأن تجري الأمور فيه (في بعدها الطبيعي والبشري) وفق سنن وقوانين وضعها بحكمته جل وعلا.
فكما أننا نرى الطبيعة محكومة لقوانين فيزيائية وكيميائية صارمة، وهذه القوانين لا تتبدل ولا تتحول، فالحديد يتمدد بالحرارة، والماء يغلي عند درجة مئة، في كل زمان ومكان منذ آدم وليومنا هذا، فكذلك المجتمع الإنساني محكوم لسنن إجتماعية تاريخية لا تتبدل ولا تتحول. يقول تعالى: (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) (الأحزاب: 62).
ويقول أيضاً: (اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا) (فاطر: 43).
وهذه السنن الإلهية لا تلغي إرادة الإنسان واختياره كما حقق في محله من علم الكلام، وإنما هي متسقة مع الفعل والإرادة الإنسانية. ولنضرب لذلك مثالاً من السنن التكوينة، فالقانون التكويني يقول إن من شرب السم مات، وأن من رمى بنفسه من قمة جبل سقط على الأرض وتحطم، ولكنَّ هذا القانون لا يلغي إرادة الإنسان، فبإمكان الإنسان أن يشرب السم أو لا يشربه، ولكنه إذا شربه جرى عليه القانون ومات، وبإمكانه من البداية أن لا يلقي نفسه من شاهق، ولكنه إذا فعلها فسوف يتوزع أشلاء، كما أن بإمكانه أن يغير مصيره حتى مع سقوطه من خلال استخدام سنة أخرى كأن يفتح مظلة مثلاً. هذا في الجانب التكويني.
كذلك الحال في البعد التشريعي، فالدين مثلاً لا يُفرض على الناس قسراً، ولهذا يقول الله تعالى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(البقرة: 256).
ويقول كذلك: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (يونس: 99).
ويقول أيضاً: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)(الكهف: 29).
ويقول: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) (الغاشية: 21ـ22).
فالمجتمات البشرية غير مقسورة ولا مجبورة على الدين، ولكنها إن آمنت بدين الله واتبعت هداه سعدت في الدارين، وإن تولت عنه شقيت في الدارين كذلك. قال تعالى (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ* وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة: 39). وقال: (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى) (طه: 123).
وعملية التغيير في المجتمع الإنساني بأبعادها المتنوعة غير خارجة عن هذه السنن الإلهية الكريمة، وغير خارجة عن دائرة الفعل الإنساني كذلك. ولهذا يقول عز من قائل: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ) .(الرعد: 11). فسنة التغيير الإلهية مرتبطة بالتغيير الإنساني ذاته.
وقضية الإمام المهدي(عج) باعتبارها أكبر دعوة تغييرية في التاريخ خاضعة لهذه السنن المرتبطة بالفعل الخارجي والشروط الموضوعية. وسوف نبحث الآن بشكل موجز غيبة الإمام المهدي عليه والسلام وظهوره طبقاً للنصوص الواردة لنرى هل تنسجم مع ما اخترناه أم لا؟
أسباب الغيبة في النصوص الدينية
عندما نلاحظ النصوص التي تحدثت عن أسباب غيبة الإمام المنتظر(عج) سوف تتضح لنا هذه الرؤية أكثر فأكثر. وسوف نستعرض هذه النصوص ثم نحاول استخلاص النتائج منها. وسوف ننقل النصوص الواردة في كتاب علل الشرائع للشيخ الصدوق، وهي ورادة في مصادر أخرى أيضاً:
1. روى الصدوق بإسناده عن أبان عن أبي عبدالله(ع) قال: قال رسول الله(ص): لابد للغلام من غيبة.
فقيل له: ولم يا رسول الله؟
قال: يخاف القتل.
2. وبإسناده عن زرارة قال: سمعت أباجعفر(ع) يقول: إن للقائم غيبة قبل ظهوره.
قلت: ولم؟
قال: يخاف وأومئ بيده إلى بطنه.
قال زراره: يعني القتل.
3. وبإسناده عن أبي الحسن الرضا(ع) قال: كأني بالشيعة عند فقدهم الثالث من ولدي يطلبون المرعى فلا يجدونه.
قلت له: ولم ذلك يا بن رسول الله؟
قال: لأن إمامهم يغيب عنهم.
فقلت: ولم؟
قال: لئلا يكون في عنقه لأحد حجة إذا قام بالسيف.
وروى في كمال الدين بسند آخر عن أمير المؤمنين(ع) قال: للقائم منا غيبة أمدها طويل. كأني بالشيعة يجولون جولان النعم في غيبته. يطلبون المرعى فلا يجدونه، ألا فمن ثبت منهم على دينه ولم يقس قلبه لطول أمد غيبة إمامه فهو معي في درجتي يوم القيامة. ثم قال: إن القائم منا إذا قام لم يكن لأحد في عنقه بيعة، فلذلك تخفى ولادته ويغيب شخصه.
4. وبسنده عن أبي عبدالله(ع) قال: إن للقائم منا غيبة يطول أمدها.
فقلت له: ولم ذاك يا بن رسول الله؟
قال: أبى الله إلا أن يجري فيه سنن الأنبياء(علیهم السلام) في غيباتهم.
5. وبإسناده عن علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر(ع) قال: إذا فقد الخامس من ولد السابع، فالله الله في أديانكم، لا يزيلكم أحد عنها. يا بني إنه لابد لصاحب هذا الأمر من غيبة، حتى يرجع عن هذا الأمر من كان يقول به، إنما هي محنة من الله عزوجل امتحن بها خلقه.
6. وأيضاً روى بسنده عنه(ع) قال: إن لصاحب هذا الأمر غيبة لابد منها، يرتاب فيها كل مبطل.
فقلت له: ولم جعلت فداك؟
قال: لأمر لم يؤذن لنا في كشفه لكم.
قلت: فما وجه الحكمة في غيبته؟
قال: وجه الحكمة في غيبته وجه الحكمة في غيبات من تقدمه من حجج الله تعالى ذكره. إن وجه الحكمة في ذلك لا ينكشف إلا بعد ظهوره.
وهذه الروايات الشريفة تبين بوضوح أن غيبته ناتجة عن ظروف موضوعية وأسباب خارجية. فالرواية الأولى والثانية تذكر أن سبب غيبته أنه يخاف من القتل. والخوف من القتل هنا ليس مبرراً بحد ذاته، والإمام لا يخاف على نفسه من أجل نفسه، وإن كان الخوف على النفس مشروعاً، ولكن القتل إذا كان في سبيل الله تعالى وفي سبيل إحقاق الحق وإقامة العدل فلا يخاف منه أهل البيت(علیهم السلام)، فالقتل لهم عادة وكرامتهم من الله الشهادة، وما منهم إلا مسموم أو مقتول. ولكن الخوف هنا من أجل الرسالة، فالمهدي(عج) هو خاتم الحجج، وهو المؤمل لإنجاز المشروع الإلهي الكبير، فلو قام وقتل فمن سينجز ذلك المشروع.
وهو بهذا يفترق عن ثورة الحسين(ع)، فالحسين(ع) قام من أجل إزالة المشروع الأموي الظالم، وهذا يتحقق بانتصاره وباستشهاده معاً، وفعلاً فإن دماء الحسين(ع) أزالت ملك بني أمية من الوجود. ولكن الإمام المهدي(عج) لم يدخر لإزالة سلطان بني العباس فقط، حتى يقال أن دماءه سوف تزلزل عروش بني العباس، وإنما هو مدخر لإزالة دول الباطل وإقامة دولة الحق ورعايتها حتى تستمكن في الأرض. ومن غير المعلوم أن قتله يومذاك ـ على فرضه ـ سوف يطيح حتى بدولة بني العباس، لأن مكانته (يومذاك) ليست كمكانة الحسين(ع) في الأمة الإسلامية حين قيامه.
وبالتالي فإنه إنما غاب لأنه لم يجد القاعدة المتينة التي يمكن أن يحقق من خلالها الإنتصار ويبني دولة الحق، ولو قام لقتل ولانتهى كل شيء, وهذا هو معنى خوفه الذي أدى إلى غيابه.
وأما الرواية الثالثة فهي تذكر أنه إنما غاب لكي لا يكون لأحد في عنقه بيعة، وهو يرجع إلى ما ذكرناه سالفاً، أي أنه لو بقي ظاهراً فإنه إما أن يقوم فيقتل دون أن ينجز ما أنيط به، أو يهادن الظالمين كما فعل آباؤه من قبل، وذلك لأنه لم يكن يجد القاعدة الرصينة التي يمكن من خلالها أن لا يبايع وأن يناهض الظالمين وينتصر عليهم، وبالتالي فسوف لن يتحقق الهدف الكبير من وجوده.
والرواية الرابعة تبين أن سبب غيبته هو أن تجري فيه سنن الأنبياء الذين غابوا من قبل، ونحن نعلم أن غيبة الأنبياء(علیهم السلام) من قبل لم تكن لغزاً غيبياً، وإنما كانت لأسباب موضوعية خارجية. فموسى(ع) مثلاً إنما غاب لأنه كان مطلوباً من قبل الظالمين ولم يكن لديه من أسباب القوة ما يستطيع من خلالها مواجهة البطش الفرعوني الغاشم، فلو بقي ولم يغب لقبض عليه وشنق وانتهى أمل بني إسرائيل بالنجاة من الظلم والإستبداد الفرعوني.
وأما الرواية الخامسة فتبين أن الهدف من الغيبة هو امتحان الخلق، وفي رواية أخرى يرويها الشيخ نفسه في كمال الدين ورد فيها: (امتحان الشيعة). ونحن نعرف أن الإمتحان أمر خارجي موضوعي له أهداف محددة، وهناك أهداف كثيرة في امتحان الناس في زمن الغيبة من أهمها خلق القاعدة الشعبية الواعية البصيرة المؤمنة الصلبة، فإن هكذا قاعدة استثنائية لايمكن أن توجد إلا بعد أن تمر بدوامة عنيفة من الإبتلاءات والإختبارات، وتخرج منها ناجحة فائزة. ولذا ورد في بعض روايات التمحيص أن الغرض من هذا التمحيص هو إنتاج عصابة لا تضرها الفتنة. روى النعماني في الغيبة بسنده عن أبي جعفر الباقر(ع) قال: إنما مثل شيعتنا مثل أندر ـ يعني بيدراً فيه طعام ـ فأصابه آكل فنقي، ثم أصابه آكل فنقي، حتى بقي منه ما لا يضره الآكل. وكذلك شيعتنا يميزون ويمحصون حتى تبقى منهم عصابة لا تضرها الفتنة.
وأما الرواية السادسة التي تذكر أن وجه الحكمة لا ينكشف إلا بعد ظهوره وأنهم لم يؤذن لهم بكشفها يومذاك، فلا تنفي ارتباط غيبة الإمام(ع) بالشروط الخارجية، وإنما غاية ما تدل عليه أن الوجه الحقيقي لغيبته سوف يتجلى بشكل واضح بعد ظهوره.
وأما أنهم لم يكشفوه في ذلك الزمان، فلربما أن وعي الناس يومئذ قاصر عن استيعابه، ولعله من أجل أن يتطور وعي الناس وفكرهم وثقافتهم فيستوعبون قيم المشروع المهدوي، ويكونون أكثر استعداداً لتطبيقه عن قناعة وبصيرة. ولا يخفى أن وعي الناس وبصيرتهم اليوم تطورت بدرجات كبيرة جداً. أو من أجل أن يعطي الله تعالى الفرصة لجميع المذاهب والتيارات لكي تجرب حظها في تحقيق النظام الأكمل للبشرية، حتى لا يقول قائل بعد أن يظهر(ع) ويطبق النموذج الفريد لدولته المباركة لو أتيحت الفرصة لي ولأفكاري ولمذهبي لصنعت دولة ونظاماً مثل نظام المهدي وأفضل. فالله تعالى أراد أن يعطي الفرصة كاملة لجميع المذاهب والتيارات لكي تجرب حظها وتدلي بدلوها، حتى إذا فشلت جميعاً في تحقيق الكمال والعدل والسعادة والسلام للعالم أدركت عجزها وعدم قدرتها على تحقيق السعادة للناس بعيداً عن الله تعالى وعن دينه وعن وليه، فتدير وجهها صوب ولي الله الأعظم، وتقبل على دعوته بقناعة تامة.
وهذا ليس مجرد تحليل تبرعي، وإنما يمكن أن يستفاد من الروايات الشريفة، كقول الباقر(ع): «دولتنا آخر الدول، ولن يبق أهل بيت لهم دولة إلا ملكوا قبلنا، لئلا يقولوا إذا رأوا سيرتنا إذا ملكنا سرنا مثل سيرة هؤلاء، وهو قول الله عزَّ وجل َّوالعاقبة للمتقين».
أو قول الصادق(ع): «ما يكون هذا الأمر ـ يعني دولة الإمام المهدي(عج) ـ حتى لا يبقى صنف من الناس إلا وقد ولوا على الناس ـ يعني حكموهم ـ حتى لا يقول قائل: إنا لو ولينا لعدلنا، ثم يقوم القائم بالحق والعدل».
فإذاً تم إلى هنا أن غيبة الإمام(ع) ليست لغزاً غيبياً منقطعاً عن الواقع الخارجي، وإنما هي مرتبطة بالواقع الخارجي وشروطه الموضوعية.
الظهور المبارك والشرائط الموضوعية
إذا تم لدينا أن الغيبة وقعت لأسباب موضوعية، وحصلت لبعض العوائق الخارجية وعدم وجود الظروف المناسبة، فتلقائياً سوف يتم لدينا أن الظهور أيضاً منوط بالواقع الخارجي، لأنه ما دام أن تلك الموانع والعوائق باقية، وما دامت الظروف غيرمناسبة، فسوف تمتد الغيبة، ولكن إذا ارتفعت تلك الموانع، وتحققت الأرضية المناسبة للظهور فسوف يتم الظهور المبارك لصاحب العصر.
ولنأخذ مثلاً من صدر الإسلام, فأمير المؤمنين(ع) حسب ما نعتقد إمام منصوب من قبل الله تعالى ومعدّ لتطبيق الشريعة الإسلامية وتحقيق العدل في المجتمع والسير به نحو الكمال، ولكن بما أن الظروف تغيرت بعد وفاة النبي(ص)، حيث اغتصب منه المنصب، ولم يجد ناصراً وقاعدة صلبة يمكن أن تعينه على النهوض بالأمر، وعلى حد تعبيره هو في الخطبة الشقشقية أن يده كانت (جذاء) كناية عن قلة الناصر، نراه صبر وظل جليس بيته قرابة خمس وعشرين سنة، وغاب أيضاً كما غاب الإمام المهدي(عج)، لكن غيبته لم تكن غيبة شخص وخفاء عن عيون الناس كما هو حال الإمام المهدي(عج)، ولكن كانت غيبة الدور الذي ينبغي أن يقوم به. وإن كان التعبير الدقيق هو أنه غيّب وليس غاب برغبة منه.
ولكنه بعد طول فترة غياب عن الساحة الإسلامية لما أقبل عليه الناس وبايعه المسلمون بشروطه ووافقوا باستفتاء شعبي عام على مشروعه التغييري, نهض بالأمر وقاد المسيرة. ولهذا يقول في آخر الخطبة الشقشقية: (فلولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أولها).
كذلك الأمر في قضية الإمام المهدي(عج)، فإذا كان قد غاب للموانع التي تمنعه من القيام بدوره، ولعدم توفر الأرضية الكافية للقيام بذلك الدور، فإنه سيظهر عندما ترتفع تلك الموانع وتتحق تلك الأرضية اللازمة.
فإذا ما توفرت له قاعدة شعبية عريضة، قاعدة مؤمنة وواعية وصلبة ومضحية، قاعدة تكون بحجم المشروع الكبير المكلف به وهو تغيير العالم. وإذا ما تطور وعي الناس وثقافتهم واستعدادهم لتطبيق العدل الشامل، وإذا ما يأس الناس من الأنظمة الأرضية الفاسدة وتطلعوا إلى الأطروحة الإلهية، وغير ذلك من الأمور الأخرى فإنه سيظهر(ع).
ويمكن استفادة ذلك من النصوص الشريفة إذا ما دققنا فيها جيداً. فروايات التمحيص والإمتحان قبل ظهور القائم(عج)، والتي ذكرت أن القائم لا يقوم حتى يمر بها الناس، عللت بإيجاد قاعدة صلبة وواعية لا تضرها الفتنة كما قرأنا في رواية النعماني عن الإمام الباقر(ع) حيث قال: «وكذلك شيعتنا يميزون ويمحصون حتى تبقى منهم عصابة لا تضرها الفتنة».
أو قوله لجابر عندما سأله متى فرجكم: «هيهات هيهات لا يكون فرجنا حتى تغربلوا، ثم تغربلوا، ثم تغربلوا، يقولها ثلاثاً، حتى يذهب الله تعالى الكدر ويبقى الصفو».
وكذلك ما رواه النعماني عن أبي عبدالله(ع) في تفسير قوله تعالى: (أتى أمر الله فلا تستعجلوه). قال: «هو أمرنا أمر الله عز وجل، ألا تستعجل به حتى يؤيده الله بثلاثة أجناد: الملائكة، والمؤمنين، والرعب».
فهنا نهى عن الإستعجال بظهوره حتى تكتمل عنده عدة النصر، فلا يظهر إلا بعد
أن يؤيد بالثلاثة: الملائكة والمؤمنين والرعب. أما الملائكة فيظهر من الأخبار أنهم
حاضرون ومستعدون لنصرة الإمام(ع) في كل لحظة، وأما المؤمنون (الأنصار المؤمنون الكاملون) فالله يعلم متى يتوفرون، وأما الرعب فإن حملناه على المعنى الإعجازي فهو يمكن أن يحصل في أي لحظه بإذن الله تعالى، وإن حملناه على المعنى الطبيعي، أي الرعب الناتج من إمكانيات الإمام العسكرية سواء في العدة أو العدد، فالكلام فيه كالكلام في الأنصار.
وأيضاً ما رواه النعماني رحمه الله عن أبي عبد الله(ع) قال: «إن الذي تطلبون وترجون إنما يخرج من مكة، وما يخرج من مكة حتى يرى الذي يحب، ولو صار أن يأكل الأغصان أغصان الشجر».
أي أنه سيبقى غائباً وإن تحمل المشاق الكثيرة حتى يرى ما يحب. وقوله يرى ما يحب الظاهر ما يحب من وجود القاعدة الواعية المضحية، ومن الظروف الموضوعية الملائمة على تنوعها.
وروى نعيم بن حماد في كتاب الفتن عن رسول الله(ص) قال: «إنا أهل بيت اختار لنا الآخرة على الدنيا، وإن أهل بيتي هؤلاء سيلقون بعدي بلاء وتطريداً وتشريداً، حتى يأتي قوم من هاهنا، من نحو المشرق، أصحاب رايات سود، يسألون الحق فلا يعطونه، مرتين أو ثلاثاً، فيقاتلون فينصرون، فيعطون ما سألوا، فلا يقبلونها حتى يدفعوها إلى رجل من أهل بيتي، فيملأها عدلاً كما ملأوها ظلماً، فمن أدرك ذلك منكم فليأتهم ولو حبواً على الثلج، فإنه المهدي».
فإن الرواية تدل على أن بلاء أهل البيت(علیهم السلام) وتطريدهم وتشريدهم سوف يستمر إلى أن تظهر الرايات الخراسانية فينتهي هذا التطريد والتشريد. ولا يخفى أن الإمام المهدي(عج) هو خاتم أهل البيت(علیهم السلام) وقد لقي تشريداً وتطريداً، بل ورد في الأخبار وصفه بالشريد الطريد، وتشريده سوف يستمر حتى ظهور الرايات الخراسانية الموطئة له، فإذا ظهرت ظهر وانتهى تشريده.
وكذلك ما رواه النعماني بسنده عن أبي بصير عن أبي عبد الله(ع) قال: «لا يخرج القائم(عج) حتى يكون تكملة الحلقة.
قلت: وكم الحلقة؟
قال: عشرة الآف».
وكذلك ما رواه القمي بسنده عن عبد العظيم الحسني عن الإمام الجواد(ع) قال: «يجتمع إليه من أصحابه عدد أهل بدر ثلاثمائة وثلاث عشر رجلاً من أقاصي الأرض، وذلك قول الله عز وجل (أينما تكونوا يأت بكم الله جميعاً إن الله على كل شيء قدير)، فإذا اجتمعت له هذه العدة من أهل الإخلاص أظهر أمره، فإذا أكمل له العقد وهي عشرة آلاف رجل خرج بإذن الله».
وهذه الرواية باستخدامها لأداة الشرط (إذا) واضحة في أن ظهوره مشروط باجتماع العدة له من أهل الإخلاص.
وهذه العدة (ثلاثمائة وثلاثة عشر) ليسوا هم كل أنصار الإمام(ع) وقاعدته الشعبية، وإنما هم أركان جبهته المباركة الذين عليهم المعول والإعتماد، وعبرت عنهم الروايات الشريفة بأنهم أصحاب الألوية وحكام الله في الأرض. والعشرة آلاف هم العدد الأولي الذي سيخرج به، وسوف يلتحق به أنصاره بعد خروجه من كل مكان.
وذكر شرط الإخلاص في أتباعه(ع) مهم جداً، إذ المدار ليس على الحجم الكمي، وإنما على الوصف الكيفي، فلابد أن يقيض له أتباع مخلصون أوفياء لا يخذلونه ولا يتخلون عنه في ساعات الشدة تكون قلوبهم كزبر الحديد كما ورد في الروايات الشريفة التي تعرضت لصفة جيشه.
فإذاً توفر القاعدة الشعبية المؤمنة والمخلصة، والأتباع الأوفياء المطيعين المضحين شرط في ظهوره(ع)، فإذا توفرت تلك العدة المباركة قام حينذاك بالأمر، لأنه سوف تنتفي أسباب الغيبة وموانع الظهور، فهو سوف لن يخاف القتل على نفسه فيفشل مشروعه الكبير، لأن لديه جيش مقتدر وقاعدة موالية ومطيعة ومضحية ومخلصة لن تسلمه للقتل، وسوف ينتصر من خلالها على أعداءه بعون الله تعالى ومدده، ولن يضطر لمهادنة الظالمين ومبايعتهم كما فعل آباؤه، لأنه سوف يكون ذا منعة ولديه القدرة على مواجهة الظالمين، فلا تكون في عنقة بيعة لظالم.
فإذاً أسباب الغيبة وموانع الظهور سوف تختفي. فإذا ما تحقق الشرط وانتفى المانع ظهر بمشيئة الله تبارك وتعالى وإذنه.
طبعاً توفر القاعدة المثالية ليس هو الشرط الوحيد، وإنما هناك شروط أخرى، ونحن لسنا هنا في صدد بيان مجموعة شروط الظهور، وإنما بيان أن ظهور الإمام المهدي(عج) كما هي غيبته ليست أمراً غيبيا مطلقاً، وإنما هو في عين غيبيته يبقى مرتبطاً بالظرف الخارجي وبالشروط الموضوعية.
فلابد أن تدرس شرائط الظهور وظروفه الموضوعية دراسة جيدة طبقاً للنصوص الوادرة لدينا وطبقاً للقواعد العقلية والدينية العامة. فكما استفدنا في باب الشروط أن توفر القاعدة الكاملة شرط في ظهوره، كذلك يمكن أن نستفيد من النصوص في باب الظروف الموضوعية أن من جملة مواصفات الأرضية للازمة للظهور أن تفشل كل الأنظمة السابقة على الظهور في تحقيق طموح العالم بالعدل والسلام، وتيأس البشرية من التيارات الأرضية البعيدة عن الله تعالى، وتتوجه إلى الأمل الإلهي بكل قناعة واشتياق.ولعل هذا هو ما تهدف إليه الروايات التي تحدثت عن أنه عند ظهوره يصل اليأس البشري إلى أقصى درجاته. جاء في الرواية عن الإمام الباقر(ع)، والتي يتحدث فيها عن الأوضاع العالمية المزرية التي يعيشها الناس قبل الظهور: «فخروجه إذا خرج عند اليأس والقنوط من أن يروا فرجا» . وفي نص آخر: «وخروجه إذا خرج عن اليأس والقنوط».
فالعالم قبل ظهوره تصل به الأوضاع المقيتة إلى حد الإختناق، ولا يرى أي فرج أو مخرج للخلاص من تلك الأوضاع بعد أن يكون قد جرب كل الحلول الأرضية والمذاهب المادية، فيتطلع إلى الأمل الإلهي ويقبل عليه بكل حرارة.
وسوف يزداد هذا التطلع والإهتمام بالإمام المهدي(عج) بعد اقتراب مؤشرات الظهور وحدوث بعض العلامات المؤذنة به. جاء عن الإمام علي(ع): «إذا نادى مناد من السماء "إن الحق في آل محمد" فعند ذلك يظهر المهدي على أفواه الناس، ويشربون حبه، فلا يكون لهم ذكر غيره».
https://ayandehroshan.ir/vdci.pazct1arzbc2t.html
ارسال نظر
نام شما
آدرس ايميل شما