فلسفة الاخلاق المعدة للظهور (التمحيص والتمهيد)
الدكتور فيصل غازي الحيدري
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولاحول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم. البحث يدور باذن الله سبحانه وتعالى حول عناوين فلسفة الاخلاق في التمحيص والتمهيد للظهور. الانتظار أمر طبيعي غريزي و ليس الشيعة فقط ينتظرون ظهور الحجة (عجل الله تعالي فرجه( بل جميع أهل الشرايع والأديان بل جميع المظلومين في العالم ينتظرون ظهوره و ظهور الحق والعدل علي يديه فإن الانسانية بحسب طبعها و إيمانها الفطري بالله القادر العالم العادل الحكيم تشعر بأنه سوف يأتي يوم الخلاص من الظلم والتعدي و أن الله تعالي سوف يملأ الأرض قسطاًوعدلاً كما ملئت ظلماً و جوراً علي يد خليفته في الأرض القادر علي تغيير الوضع السائد وهوالامام المهدي (عجل الله تعالي فرجه) و من الطبيعي أن يسعي الانسان المنتظر في سبيل تهيئةالظروف لظهور الامام الحجة (عجل الله تعالي فرجه) و يجتهد في إصلاح نفسه و مجتمعه كي يكون من أنصار الحجة و يكون أهلاً للجهاد معه في سبيل محو الظلم و العدوان و الدفاع عن المظلومين فمن بين الامور الممهدة للظهور هي مسألة لتمحيص والتمهيد مدار بحثنا هذا .
التمحيص لغة:
يقال في اللغة: محّص الشيء محصاً ومحّصه تمحيصاً: خلَّصه من كلّ عيب، ومحص الذهب بالنار: خلَّصه ممّا يشوبه ومن المجاز محّص الله التائب من الذنوب ومحّص قلبه وتمحّصت ذنوبه. وحبل مَحِصٌ ومَحِيصٌ أَمْلَس أَجْرَدُ ليس له زِئْبِرٌ، ومَحِصَ الحبلُ يَمْحَصُ مَحَصاً إِذا ذهب وبرُه حتى يَمّلِص، والمَحْصُ: خُلُوصُ الشيء.
وفي التنزيل: "وليُمَحِّصَ الله الذين آمنوا"؛ أَي يُخَلِّصهم، وقال الفراء: يعني يُمحِّص "الذنوبَ عن الذين آمنوا"، و (وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ) ليكشفه ويزيله، أو ليخلَّصه من الوساوس، يقال: محّصته تمحيصاً، إذا خلَّصته من كلّ عيب. ومحّص الله العبد من الذنب، إذا طهّره منه. ويقال في الدّعاء: "اللَّهمّ مَحِّصْ عنّا ذنوبنا" أي أزل ما علق بنا من الذّنوب.
فلسفة التمحيص
هناك علاقة متقابلة بين تمحيص المؤمنين وارتقائهم في مدارج الخلوص والطهر، فالدنيا للمؤمنين ليست بدار بقاء ومقام، إنّما دار تمحيص وامتحان (أحسِبَ الناسُ أنْ يُتركوا أنْ يقولوا آمَنّا وهُم لا يُفتَنونَ. ولَقد فَتَنَّا الّذين مِنْ قَبلِهم فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الّذينَ صدقوا ولَيَعْلَمَنَّ الكاذبينَ).
فكلّما كانت البلوى والاختبار أعظم، كانت المثوبة والجزاء أجزل، عن رسول الله (ص): "ما أوذي أحد مثل ما أوذيت " ، وعن الإمام الصادق (ع): "إنّ أشدَّ الناس بلاءً الأنبياء ثمّ الّذين يلونهم ثمّ الأمثل فالأمثل".
التمحيص والابتلاء في كتاب الله
تعدّدت الآيات التي تحدثت عن التمحيص والابتلاء الذي وُعد به المؤمنون، أو الذي حلّ بالأقوام السابقين نذكر منها:قوله تعالى: (الّذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيّكم أحسن عمل).
(ولنبلونّكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات)
(وليمحّص الله الّذين آمنوا ويمحق الكافرين) (وليمحّص ما في قلوبكم، والله عليم بذات الصدور).
أنواع التمحيص والبلاء
البلاء على أنواع وأحوال: فمرّة يكون للعقاب والنكال لما اقترفه المرء من الموبقات، فيبتلى بالأمراض والعاهات، أو تلف الأهل والأولاد، وجار سوء وتنغيص اللذّات، أو تسلّط سلطان فيفرق الأحباب ويشتّت الجماعات، قال أمير المؤمنين (ع): "إنّ الله يبتلي عباده عند الأعمال السيّئة بنقص الثمرات، وحبس البركات، وإغلاق خزائن الخيرات... " مشيراً إلى ما ورد في الذكر الحكيم: (وَلَنَبْلُوَنَّكُم بشيء مِنَ الخوف والجوع ...) أو في قوله سبحانه: (ولقد أخَذْنا آلَ فرعونَ بالسنينَ ونقصٍ من الثمرات ...).
ومرّة يكون البلاء تمحيصاً للذنوب ورفعاً للدرجات (وليمحّص الله الّذين آمنوا ويمحق الكافرين) عن الإمام علي (ع): "الحمد لله الذي جعل تمحيص ذنوب شيعتنا في الدنيا بمحنتهم، لتسلم بها طاعاتهم ويستحقّوا عليها ثوابها".
وقال أيضاً: "ولكنّ الله يختبر عباده بأنواع الشدائد، ويتعبّدهم بأنواع المجاهد، ويبتليهم بضروب المكاره، إخراجاً للتكبّر من قلوبهم، وإسكاناً للتذلّل في نفوسهم، وليجعل ذلك أبواباً إلى فضله".
فالأولياء الصالحون لن يكونوا مؤمنين إلاّ كما وصفهم الإمام الكاظم (ع) مخاطباً:
"حتّى تعدّوا البلاء نعمة، والرخاء مصيبة، وذلك أنّ الصبر عند البلاء أعظم من الغفلة عند الرخاء".
وخلاصة الأمر: أنّ الله سبحانه يتعاهد عباده المؤمنين بالبلاء، كما يتعاهد المسافر عياله بأنواع الهدايا والطرف _ جاء عن أبي جعفر (ع): "يا زياد إنّ الله يتعهّد عبده المؤمن بالبلاء كما يتعهّد الغائب أهله بالهديّة، ويحميهالدّنيا كما يحمي الطبيب المريض. ولولا أن يرتاب بعض ضعاف النفوس لجعل الله (لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضّة ومعارج عليها يظهرون) ولهذا خصّ الآخرة خالصة للمؤمنين (قل هي للّذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة)، وأمّا الدنيا فهم فيها مبتلون، ليسمع دعاء أحبّائه حين يمسون وحين يصبحون، وفي خلواتهم _ مع حبيبهم _ يتناجون، وبالأسحار هم يستغفرون.
الابتلاءات والامتحانات في زمان الغيبة الكبرى
يمكن جمع الابتلاءات التي يمحّص المؤمنون بها في زمن الغيبة الكبرى بالأمور الآتية:
1. مواجهة الشهوات والنوازع الشيطانية فتأثيرها أكبر في هذه الغيبة بسبب زيادة الإغراءات الشيطانية والفساد الخلقي وتنوّع الانحرافات وتعدّدها.
2. سيادة الظلم والجور في الأرض وتعرّض الإنسان للضغوطات والاضطهاد والمصاعب بسبب انحسار الإسلام بنظامه العادل عن المجتمعات البشرية.
3. مواجهة الفرد المؤمن لضروب التشكيك في وجود الإمام كلما طال الزمان وبالتالي التشكيك في العقيدة ومن ثم سيطرة الحياة المادية على المجتمع.
فبعد كل هذه الابتلاءات والمصاعب والمحن يتكامل المؤمنون ويخرج الصفوة الذين يمكن الاعتماد عليهم في قيام الدولة الإسلامية المهدوية وبقائها بالشكل المطلوب .عن الإمام السجاد (ع) قال عن غيبة الإمام المهدي (ع): " فيطول أمدها حتى يرجع عن هذا الأمر أكثر من يقول به، فلا يثبت عليه إلا من قوي يقينه وصحت معرفته ولم يجد في نفسه حرجاً مما قضينا وسلّم لنا أهل البيت".
فعن رسول الله (ص) قال:"والذي بعثني بالحق بشيراً ونذيراً إن الثابتين على القول بإمامته في زمان غيبته لأعز من الكبريت الأحمر، فقام إليه جابر بن عبد الله الأنصاري فقال: يا رسول الله وللقائم من ولدك غيبة ؟ قال (ص): إي وربي ليمحّص الذين آمنوا ويمحق الكافرين".
وعن الإمام الرضا (ع) قال: " والله لا يكون ما تمدون إليه أعناقكم حتى تميزوا وتمحصوا فلا يبقى منكم إلا الأندر، ثم قرأ قوله تعالى " (الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون).
وعن أبي عبد الله (ع) قال: "يا منصور إن هذا الأمر لا يأتيكم إلا بعد إياس، لا والله حتى يميزوا ولا والله حتى يمحصوا ولا والله حتى يشقى من يشقى ويسعد من يسعد".
إن الهدف من خلق الإنسان هو عبادة الله سبحانة وتعالى، الغاية الأساسية من إيجاد العبادة الكاملة والصحيحة، ونشرها في ربوع الأرض، والمتمثلة بتوجيه العقيدة والعبادة الخالصة إلى الله (ع)، قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).. من هنا نعرف أن الهدف الإلهي المقصود لإيجاد الخليقة هو الحصول على الكمال العظيم المتمثل بـ:
١. إيجاد الفرد الكامل:
يعيش الفرد حرية الاختيار، ويتجرد من كل شيء سوى إخلاص عبادة الله.
٢. إيجاد المجتمع الكامل: مجموعة من الأفراد يعيشون على مستوى العدل الإلهي.
٣. إيجاد الدولة العادلة:تحكم المجتمع بالحق والعدل وبشريعة الله.
ولذا كثر عدد الأنبياء من أجل إعداد البشرية وتربيتها للوصول إلى هذا المستوى اللائق، وإفهامها النظرية الكاملة للتشريع الإلهي (العدل)، والذي يريد الله تعالى تطبيقها على وجه الأرض، وبها يتحقق الهدف الأساس لإيجاد البشرية.
ولعل أعظم أهداف الخلقة استقلال طائفة من البشر بوظائف العبودية من مرشد سمـاوي وقائد رباني مع بقاء الدين وحفظه من التحريف، ولذا جاءت الأخبار الدالة على أن انتظار الفرج أفضل الأعمال، قال رسول الله (ص): (أفضل العبادة انتظار الفرج) وقال (ص): (أفضل جهاد أمتي انتظار الفرج) اذاً عبادة الانتظار هي الحكمة والمصلحة العظيمة من الغيبة.
اليقين الذي نملكه بأن دولة الإمام المهدي (ع) سوف تطبق العدل الكامل، وهذا وعد إلهي صريح للمؤمنين.. فعندما يتهيأ الوقت المناسب في كل الأمور، وتصبح الأوضاع مساعدة، فإن الله (ع) سيظهر منجي العالم ولتبدأ عملية إنقاذ البشرية من الظلم والجور، ونشر العدل والقسط.. ولكن لابد لهذا اليوم الموعود من شروط ومقومات تحقق نجاحه، وإرهاصات تسبقه تهيء الأرضية المناسبة للانتصار، ومن هنا نعرف أن اليوم الموعود منوط باجتماع شرائط الظهور.. ولم يبق من شرائط الظهور التي لم يتمخض التخطيط الإلهي عن إيجاده، ولم يحدث حتى الآن أمران:
الأمر الأول: تربية الأمة ككل من الناحية الفكرية، حتى يكون لها القابلية لاستيعاب وفهم وتطبيق القوانين الجديدة التي تعلن بعد الظهور.
الأمر الثاني: تربية العدد الكافي للنصر في يوم الظهور من الأفراد المخلصين الكاملين الممحصين، الذين يكونون على مستوى التضحية والفداء لتطبيق الأطروحة العادلة الكاملة.
وهذان الأمران يحدثان تدريجياً ونتيجة للتربية الطويلة والبطيئة للأمة، وتحت ظروف وخصائص التمحيص والاختبار.. ولولا التخطيط الإلهي لإيجاد شرائط الظهور، باعتبار استهدافه لليوم الموعود، لأمكن عدم تحقق شيء من هذه الشروط في أي وقت من عمر البشرية الطويل، ولكن الله تعالى، وهو اللطيف الخبير بعباده، شاء أن يتفضل على البشرية باليوم الموعود، وأن يربيها لأجل أن يزرع فيها بذور المسؤولية تجاهه وإيجاد الشروط التي بها تستطيع تكفل مسؤوليته.
ليس هذا فقط، بل من عدل الله سبحانه وتعالى ورحمته أن جعل الفرصة متاحة لكل البشر.. فالحكمة والفائدة من فترة الغيبة وطول المدة وكل ذلك التأخير هو التمحيص والاختبار والغربلة حتى يتميز المؤمن الحقيقي عن غيره، وتظهر كوامن النفوس وحقيقة المدعين بتطبيق الحق والعدل، وتنكشف خبايا المتلبسين بلباس الدين وزي الناسكين، وما اشتملت عليه الصدور، قال الله سبحانه وتعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) عن أبي بصير عن أبي عبد الله الصادق (ع) أنه قال: (لابدّ للناس من أن يمحصوا ويميزوا ويغربلوا وسيخرج من الغربال خلق كثير) وعن الإمام الباقر (ع) أنه قال: (والله لتميزن والله لتمحصن والله لتغربلن كما يغربل الزوان من القمح) فبالتمحيص يعض الزمان وتنكشف حقائق المدعين، وتكشف عورات المتسترين، وتعرف مضمرات القلوب.. إن استجابة الناس لظروف التمحيص والاختبار والتمهيد تتفاوت من فرد إلى آخر، فمنهم من يستثمر ظروف الامتحان والتمحيص ما أمكن في تربية ذاته وإعدادها بالتوجيه العبادي السليم والمحافظة على الهوية العقائدية والتمسك بالأهداف والفضيلة (مشاعر الانتظار الوجدانية تجاه الإمام الغائب والاتجاه نحو الولاء لقياده الإمام، وتحملهم مسؤولية مواجهة الواقع الفاسد بإرادة صلبة، وتجديد البيعة للإمام المنتظر (ع)).. وبعض الناس يضعف أو يرسب في امتحان التمحيص فيجد نفسه كما أنبأت الروايات في براثن انحراف كبير بنفس مستضعفة قد تكون راغبة في الخلاص من الفساد، لكنهَّا بسبب عجزها الداخلي وقبولها المذل بالطاعة للظالم تبقى أسيرة مستلبة الإرادة.
إذاً: التمحيص ينتج أفراداً يكتسبون درجةً عاليةً من الإيمان وقوة الإرادة، نتيجة لردود الفعل الصحيحة تجاه ظروف الظلم والطغيان، وهؤلاء المؤمنين المخلصين تتفاوت درجاتهم:
الدرجة الأولى: قادة الجيش (أصحاب الإمام (ع) ٣١٣) لهم دور كبير في قيادة الجيوش وفتح البلاد وإدارة الأمور، وأثبت التمحيص والاختبار جدارتهم وقدرتهم وكفاءتهم على التضحية في سبيل الأهداف الإسلامية العليا، وقد أختُيروا بعناية خاصة.
الدرجة الثانية: أفراد الجيش (انصار الإمام (ع)) وهم المؤمنون الصالحون الذين يلتحقون بالإمام المهدي (ع) وينضوون تحت لوائه ويحاربون أعداءه، وأثبت التمحيص والاختبار أن لهم نصيباً وافراً من الإيمان الكامل والعقيدة الراسخة، وهم أقل امتيازاً من الأصحاب الـ (٣١٣).
إن الاطلاع على شرائط وأسباب الظهور وبالخصوص الشرطان (الأمران: الأول والثاني) ومالهما من تأثير واقعي في إيجاد يوم الظهور.. وهل تحققا فعلاً أم لا؟.. فهو مما لايمكن أن يعرفه الناس إلا عند الظهور، فمن المتعذر تماماً التأكد من اجتماع شروط وأسباب الظهور، فمن ذلك حصول العدد الكافي من المخلصين الممحَّصين في العالم.وهذا مما لايكاد يمكن التأكد منه لأحد من الناس الاعتياديين، لأنه لايمكن أن نعلم في الأشخاص المخلصين أنهم وصلوا إلى الدرجة المطلوبة من التمحيص أو لا.. وبناءً على ذلك: فاليوم الموعود ليس لدينا أي وقت محدد له، وإنما هو منوط بحصول شرائطه وعلله، ولذا يمكننا أن نقول: متى اجتمع العدد الكافي من المخلصين الممحَّصين للفتح العالمي المهدوي، كان يوم الظهور ناجزاً، سواءً كان زمان وجودهم والفترة التي تقتضى تحققهم.. طويلة جداً أو قصيرة.. وهذا دليل آخر على أن التوقيت (بمعنى تحديد أو تعيين وقت الظهور) كذب محض وبدون أي دليل، فعلمه موكّل إلى الله (ع)، وغموض تام بالنسبة إلى الناس.
إن التمحيص والتمهيد هو السر في عدم التوقيت، وذلك لإيجاد وتحقق شرائط الظهور، فلم يحجب وقت الظهور (وتحديد زمانه) سوى خوف الانتشار المؤدي إلى عدم تحقق الهدفين المنشودين.. ومن هنا، فكيف يكون اختبار تصديق الناس وتسليمهم لظهور الإمام المهدي (ع) الذي لم يعرفوا وقته، ولم يعلموا زمانه؟؟.. وكيف يكون ثباتهم وصبرهم على أمر لم يطلّعوا على حين تحققه، فيمتُحنون به؟؟.. فيتبين الحال وتظهر حقائق الرجال، ولذا: اقتضت الحكمة الإلهية البارعة إخفاء زمان الظهور وعدم توقيته.
انتظار الفرج
والذي عبرت عنه الروايات بأنه أفضل العبادة، فقد مدحت أخبار أهل البيت عليهم السلام المنتظرين لخروجه، كما وضحت كيفية هذا الانتظار وشروطه، كما بينت تكاليف المنتظرين في زمن الغيبة الكبرى.. عن أمير المؤمنين (ع): (انتظروا الفرج ولا تيأسوا من روح الله فإن أحب الأعمال إلى الله (ع) انتظار الفرج مادام عليه العبد المؤمن، والمنتظر لأمرنا كالمتشحط بدمه في سبيل الله) ولتوضيح معنى الانتظار: جاء في رواية عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: (من سره أن يكون من أصحاب القائم، فلينتظر، وليعمل بالورع ومحاسن الأخلاق وهو منتظر، فإن مات وقام القائم بعده كان له من الأجر مثل أجر من أدركه، فجدوا وانتظروا هنيئاً لكم أيتها العصابة المرحومة) ولكن التوقيت والاستعجال وعدم الصبر من الأمور المنهي عنها، وتتعارض مع معنى الانتظار الإيجابي، سئل الإمام الجواد (ع) لم سمّـي المنتظر قال: (لأن له غيبة يكثر أيامها، ويطول أمدها، فينتظر خروجه المخلصون، وينكره المرتابون، ويستهزئ بذكره الجاحدون، ويكذب فيه الوقّاتون، ويهلك فيه المستعجلون، وينجو فيه المسلّمون).
والمعروف أن الانتظار هو حالة ترقب واستعداد وتهيئة النفس والمساعدة في تهيئة الظروف والتمهيد لقرب الظهور.. وأجلى مصاديق الانتظار هو الاطلاع على (الثقافة المهدوية) والتشبع بها، ومتابعة كل ما يرتبط بالإمام الغائب عجل الله فرجه، ومعرفة شرائط الظهور وعلاماتة، والحرص على متابعة العلامات ومطالعة الأحداث التي تسبق ظهور القائم (ع).. فالمعروف من حالة المنتظر لقدوم غائب أو عودة مسافر تكون بتأمل الطريق وملاحظة علامات وشروط القدوم، خاصة إذا كان المنتظَر أكثر محبوبية وأعظم نفعاً، فتزداد حالة الترقب والتلهف والشوق والاستعداد لحصول حالة اللقاء.. والأهم من هذا وذاك هو إعداد النفس لتتأهل لنصرة الإمام (ع) والسير في ركبه، فلا يسع المنتظِرون للإمام المهدي (ع) والمترِقِّبون للفرج إلا المداومة في تعديل السلوك وتصحيح الأعمال وتطبيقها على ضوء الشريعة الإسلامية تحسباً لظهور القائم عجل الله فرجه، وذلك باتباع الآتي:
١. أن نجعل من أنفسنا شخصياتٍ إسلامية واعية، وذلك بتعميق الوعي العقائدي، والالتزام بالسلوك الإسلامي الصحيح.
٢. تهيئة النفس وتربيتها على التضحية والبذل والجهاد في سبيل الله والممارسة الفعلية للعطاء والتضحية.
٣. علينا أن نقوم بدور التمهيد لظهوره (ع) وذلك ببث الوعي الإسلامي الصحيح على أوسع نطاق في العالم.
وهذا هو المعنى الحقيقي الإيجابي للانتظار.. وهنا يتجلى الدليل في تأكيد الأخبار على أن: (أفضل العبادة بعد المعرفة انتظار الفرج) كما رُوىِ عن الإمام موسى بن جعفر (ع).
وطالما أن قضية الانتظار ترتبط بالفكر والعقيدة المهدوية، فإنه يمكن النظر إلى هذا المفهوم من ثلاثة آثار وهي:
١. الأثر المعرفي: ويعني ثقافة الانتظار وأحكامها، ومعتقدات المنتظرِين وأفكارهم وما لديهم من أدلة وبراهين لتأييد عقيدة المهدي المنتظر، واستشراف حوادث المستقبل وأخذ الموقف الشرعي تجاهها.
٢. الأثر الوجداني: ويتمثل في المشاعر السيكولوجية المؤثرة سلباً وإيجاباً في المنتظرِين للمهدي الموعود (ع) ويشمل كآفة الاستعدادات النفسية والذهنية وقبول تحديات ومشاكل عصر الغيبة.
٣. الأثر السلوكي: توجيه الإنسان المنتظر.. سلوكياً وأخلاقياً نحو تطبيق مناهج الإسلام المختلفة في الحياة، وممارسة المنتظرين للأحكام الإسلامية والأعمال العبادية حسب الفكر والعقيدة المهدوية في عصر الغيبة.
الدعاء بتعجيل الفرج
إن الدعاء وسيلة حيَّة وفاعلة للتعبير عن هموم المنتظرين وآمالهم، لما له من إسهام في تهيئة الظرف المؤهَّل لاستقبال الإمام عجل الله فرجه، بالإضافة لكونه دليل صدقٍ للإيمان بالعقيدة المهدوية والإيحاء بها مما يؤدي إلى تركيزها في نفس المؤمن المنتظِر.. فالدعاء بتعجيل فرج الإمام عجل الله فرجه يشعر المؤمن أنه يعيش ذكر إمامه الغائب، فيعمر قلبه دائماً بالشوق والحنين إليه (ع)، فالدعاء من الروابط العظيمة والحبال المتينة ودلائل المحبة.
إن الأخبار والروايات عن أهل البيت عليهم السلام حثت على الدعاء بتعجيل الفرج، لما فيه من فوائد عظيمة، وقد كتب العلاّمة الحجّة السيد محمد تقي الموسوي الأصفهاني في ذلك سفراً كبيراً أسماه (مكيال المكارم في فوائد الدعاء للقائم (ع))، ويكفى في ذلك ما جاء عن الإمام المهدي (ع) حيث قال: (وأكثروا الدعاء بتعجيل الفرج فإنه فرجكم) فمن الآداب العملية في عصر الغيبة الدعاء للإمام المهدي (ع) بأن يعجل الله تعالى فرجه، وان يحرسه من كيد الأعداء وينصره عليهم، خاصة وأنه إمام العصر والزمان، أي إمامنا الفعلي، مما يفرض علينا آداباً تجاهه، ولا أبسط من ذلك معرفته والدعاء له.. قال زرارة بن أعين للإمام الصادق (ع): جعلت فداك فإن أدركت ذلك الزمان _ زمن غيبة الإمام المهدي (ع) _ فأي شيء أعمل قال: يا زرارة إن ادركت ذلك الزمان فأدم هذا الدعاء: (اللّهم عرِّفني نفسك، فإنّك إن لم تعرِّفني نفسك لم أعرف نبّيك، اللّهَّم عرِّفني رسولك فإنّك إن لم تعرِّفني رسولك لم أعرف حجّتك، اللّهَّم عرِّفني حجّتك فإنّك إن لم تعِّرفني حجّتك ضللت عن ديني).
أما كيفية الدعاء بتعجيل الفرج فله صور وأشكال عديدة ذكرت في كتاب (مكيال المكارم) نذكر منها:
١. أن يسأل الله تعالى تعجيل فرج آل محمد (ص).
٢. أن يسأل الله تهيئة الأسباب التي توجب تعجيل الفرج. وغيرها الكثير....
ومن هنا نؤكد أنه لا يمكن تحديد أو تعيين وقت ظهوره (ع)، لأن تحديد الوقت مسبقاً يُفقد المؤمنين حالة الشوق والاستعداد والترقب والانتظار لظهوره عجل الله فرجه.
وبالتالي سيتركون الأدعية وسائر الأعمال المؤدية لتهيئة الأجواء والظروف المواكبة والملائمة لاستقبال اليوم الموعود.
الانحراف العقائدي عن القضية المهدوية إن العقيدة بكل مل تحتويه من مفاهيم وقواعد وأصول تعد من أهم الأسس التي يبتنى عليها إيمان الفرد وثبات هذا الإيمان أمام كل التحديات والفتن التي تجابهه.
ولما كانت العقيدة المهدوية من أهم العقائد والأصول الإسلامية لدى جميع المسلمين بشكل عام ولدى شيعة أهل البيت بشكل خاص، على اعتبار أنهم يؤمنون بولاية أهل البيت عليهم السلام، ويعدون الإمامة أصلا من أصول الدين بخلاف بقية الطوائف الإسلامية الأخرى، كان لابد من إيلاء هذه القضية أهمية وعناية خاصة بالبحث والدراسة والتدقيق، من جميع الاتجاهات الروائية والتفسيرية والعلمية والاجتماعية وغيرها.
ولعل من أهم الجوانب الاجتماعية التي ينبغي دراستها والوقوف عندها هو جانب الانحراف عن القضية المهدوية الذي يقع بين الحين والحين الآخر لدى البعض. ليس من الغريب أو العجيب إن يظهر بين فترة أو أخرى من يدعي المهدوية ويدعو الآخرين إلى أتباعه والسير خلفه، فهذا التاريخ يحدثنا عن الكثير من هؤلاء الضالين، ولا تكاد تخلو فترة من الفترات منهم، فقد ظهر المتمهدي السوداني، والمتمهدي السعودي وكذلك ظهر في الهند من يدعي المهدوية وغيرهم كثير، ولكن الغريب في القضية إن من يتبع هؤلاء يصدق بكل ما يقال له دون أدنى تفكير أو إعمال نظر، متناسيا قول الله تعالى(ولقد كرمنا بني ادم وحملناهم في البر والبحر)، فالله عز وجل كرم الإنسان عن سائر المخلوقات بالعقل وأعطاه القدرة على التمييز بين الصواب والخطأ، فمن المؤسف إن ينحدر الإنسان إلى هذا المستوى من اللا تفكير و اللا وعي بما يجري ويدور حوله، فيصبح كالبهيمة تسيره أهواؤه الشخصية ومغرياته الذاتية، فيصبح أسير نفسه الأمارة بالسؤء، فتورده مناهل الهلكة والانحطاط.
فالقضية المهدوية والمصلح العالمي تكاد تكون من أوضح الواضحات في المجتمع البشري ولا يكاد شعب من الشعوب أو امة من الأمم تخلو من هذه الفكرة وان تفاوتت من زمن إلى آخر، أو اختلفنا نحن الأمامية مع الآخرين في تحديد وتشخيص المصلح العالمي باعتبارنا الطائفة الحقة، وان المصلح الموعود هو الحجة بن الحسن عجل الله تعالى فرجه.
كما انه لا غرابة في إن تنشق من هذه الطائفة بعض المجاميع الضالة وتتبع أشخاصا منحرفين لان التمحيص والابتلاء سنة الله عز وجل في خلقه، قال تعالى (أحسب الناس إن يتركوا إن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين).
وعن الباقر (ع) انه قال: (لتمحصن يا شيعة آل محمد تمحيص الكحل في العين وان صاحب العين يدري متى يقع الكحل في عينه ولا يعلم متى يخرج منها وكذلك يصبح الرجل على شريعة من أمرنا ويمسي وقد خرج منها ويمسي على شريعة من أمرنا ويصبح وقد خرج منها).
وهنا نطرح السؤال التالي: ما هي دوافع البعض من خلال استغلال القضية المهدوية ؟
قبل الإجابة عن هذا التساؤل لابد لنا من معرفة الكيفية التي يحصل بها الانحراف عن القضية المهدوية، أو كيفية استغلال البعض للقضية المهدوية، ثم إننا إذا عرفنا الكيفية، توصلنا إلى الغائية، ودوافع انحراف البعض عن القضية المهدوية.
من خلال استقراء التاريخ استقراءا ناقصا، إذ لا يسع المقام للاستقراء التام، لقصور في الظرف وليس في المظروف، فإننا سنجد أنماطا مختلفة لهذا الانحراف، منها :
_ ادعاء المهدوية.
_ ادعاء النيابة الخاصة.
_ ادعاء النيابة العامة.
وهذه الأنواع والأنماط الثلاثة يتفرع عنها عدة أنماط وأنواع ثانوية، تختلف بحسب اختلاف المدعي للمهدوية، فقد يترقى الشخص المدعي للمهدوية إلى الادعاء بالنبوة أو الرسالة وحتى الإلوهية والعياذ بالله.
أما ادعاء النيابة العامة فقد تدفع المدعي لها إلى الادعاء بالاعلمية والولاية المطلقة على المسلمين دون وجه حق أو حظ من علم، بل لجلب وجوه الناس إليه من اجل تحصيل المنفعة الخاصة فقط.
ادعاء المهدوية
إن ادعاء المهدوية يكاد يكون من أكثر الادعاءات الثلاثة، رواجا ووضوحا في التاريخ، وبطلان ادعاء هؤلاء يكاد يكون من أوضح الواضحات، وذلك لأسباب عديدة منها:
أولا : انحصار المهدوية في الإمام الحجة ابن الحسن عجل الله تعالى فرجه الشريف، على ضوء ما دلت عليه الروايات والأخبار الصحيحة السند والمروية من طرق معتبرة، والشاملة لأحاديث الرسول (ص) وأئمة أهل البيت عليهم السلام، والكثير ممن شاهد الإمام في فترة حياة أبيه العسكري (ع)، والتي لا يمكن لمنصف إن ينكرها، إلا إذا كان أعمى البصر والبصيرة.
نعم قد تدعي بعض الطوائف والأمم إن الموعود منها، وتخالفنا نحن الشيعة الأمامية في الرأي، وهذا الأمر لا يغير في القضية شيء إذ نحن أصحاب الدليل نميل حيثما يميل، ولما كانت كل الأدلة والبراهين العقلية والنقلية، قاطعة بحقيقة المهدي الإسلامي، وكونه هو الحجة بن الحسن عجل الله تعالى فرجه الشريف، مع بطلان دعاوى البعض، وعدم وجود الأدلة الشرعية لدى البعض الآخر في إثبات مهديهم، فلا حجة داحضة لهم علينا بل العكس هو الصحيح فكل حججنا في إثبات المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف، وانه الإمام الثاني عشر من أئمة أهل البيت عليهم السلام، حجج دامغة لا يمكن إنكارها لمن كان يبحث عن الحقيقة.
ثانيا : إن الكثير من هؤلاء لم يكونوا سوى أناس عاديين لاحظ لهم من علم أو تقوى أو رشاد، ولم يقيموا الحجة على أحقيتهم في الإتباع والإطاعة، وكانوا قاصرين عن الإحاطة بكل ما يجري من حولهم من أحداث ووقائع، مما أدى إلى هلاكهم مع بعض من اتبعهم، ولم يتبعهم إلا من كان غافلا عن حقيقتهم التي كانوا يخفونها بقناع ادعاء المهدوية والتلبس بزي الإيمان والتنسك والزهد، في حين إن الحقيقة هي خلاف ذلك.
ومن الواضح إن كثير من هؤلاء(المدعين للمهدوية) لم يكونوا محيطين أو مطلعين على تفاصيل الحركة المهدوية الموعودة، والتي بشرت بها الشرائع السماوية كافة، والشريعة الإسلامية خاصة، من خلال الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة والتي رسمـت لنا خارطة التحرك المهدوي باجلى صورة وأوضحها، لا بل لو أتيحت لهم الفرصة لكي يحفظوا هذه الحركة بأدق تفاصيلها لما تسنى لهم النجاح فيما يدعون.
قال تعالى (وما تشاءون إلا إن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما، يدخل من يشاء في رحمته والظالمين اعد لهم عذابا اليماً).
ادعاء النيابة الخاصة
أما النيابة الخاصة فان طريق ادعائها مسدود بنص الإمام المنتظرعجل الله تعالى فرجه الشريف، من خلال التوقيع المبارك الصادر عنه عجل الله تعالى فرجه الشريف، إلى السفير الرابع علي بن محمد السمري، فقد روي عن.
(جماعة عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه قال حدثني أبو محمد الحسن بن احمد المكتب، قال كنت بمدينة السلام في السنة التي توفي فيها الشيخ أبو الحسن علي بن محمد السمري قدس سره فحضرته قبل وفاته بأيام فاخرج إلى الناس توقيعا نسخته:
(بسم الله الرحمن الرحيم: يا علي بن محمد السمري أعظم الله اجر إخوانك فيك فانك ميت ما بينك وبين ستة أيام فاجمع أمرك ولا توص إلى احد فيقوم مقامك بعد وفاتك فقد وقعت الغيبة التامة فلا ظهور إلا بعد إذن الله تعالى ذكره وذلك بعد طول الأمد وقسوة القلوب وامتلاء الأرض جورا وسيأتي لشيعتي من يدعي المشاهدة إلا فمن ادعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كذاب مفتر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم).
(قال) فنسخنا هذا التوقيع وخرجنا من عنده فلما كان اليوم السادس عدنا إليه وهو يجود بنفسه فقيل له: من وصيك من بعدك ؟ فقال (لله أمر هو بالغه ) وقضى، فهذا آخر كلام سمـع منه رضي الله عنه وأرضاه."
والسفراء الأربعة للإمام المنتظرعجل الله تعالى فرجه الشريف، أمرهم بيّن للخاصة والعامة على حد سواء بل إن كثيرا من أبناء العامة يتشرفون بزيارة مراقدهم المعظمة في بغداد، ويقدسونهم اشد تقديس، لما علموا منهم من إيمان وتقوى وورع وزهد، جعلتهم محط أنظار الداني والقاصي، حتى استحقوا الثناء الجميل من قبل الأئمة عليهم السلام، إذ لم يصل إلى درجتهم ومكانتهم احد في تلك الفترة العصيبة والى يومنا هذا على الرغم من وجود كبار العلماء من إتباع وأصحاب الأئمة عليهم السلام، وجهابذة علماء الشيعة.
فمن يدعي هذه المكانة الرفيعة قبل خروج السفياني والصيحة فيجب تكذيبه ونبذه لصريح النص في انغلاق باب السفارة الخاصة، ووقوع الغيبة الكبرى.
ادعاء النيابة العامة
أما النيابة العامة فهي مكانة ودرجة رفيعة يتشرف بها كل عالم ثبتت أعلميته واجتهاده من خلال شهادة أهل العلم والخبرة من ذوي الاختصاص والشأن، وقد دلت الروايات المروية عن أهل البيت عليهم السلام على وجوب أتباع العلماء في فترة الغيبة الكبرى، منها التوقيع المروي عن الإمام الحجة عجل الله تعالى فرجه الشريف وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم.
والحديث المروي عن أمير المؤمنين (ع): مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله، الأمناء على حرامه وحلاله).
وقد حددت شروط كثيرة لكي يكون الإنسان مستحقا لشرف النيابة العامة، وقد ذكرها الكثير من العلماء والفقهاء، منها: العقل والعدالة والإيمان والفقاهة والاعلمية، وغيرها من الأمور التي تجعله مهيئا لهذا المنصب الخطير والعظيم، وقد ورد في (التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري (ع): فأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه، حافظا لدينه، مخالفا لهواه، مطيعا لأمر مولاه، فللعوام إن يقلدوه).
فاجتهاد الشخص لا يكفي فقط لكي يكون نائبا عاما فلابد من كونه اعلم، فان أكثر العلماء يفتون بعدم جواز تقليد مجتهد بوجود مجتهد آخر اعلم منه.
فادعاء النيابة العامة والمرجعية والاعلمية من قبل البعض لا يكفي لكي يكون دليلا على أتباعهم من قبل العامة إذ لابد من التحقق من صحة ادعائهم هذا من خلال سؤال أهل الخبرة وهم المجتهدون ومن هم بدرجتهم، ممن لهم باع طويل في تحصيل العلم من أهل التقوى والورع من الثقاة، فأهل مكة اعرف بشعابها.
يمكننا إن نشير بصورة دقيقة إلى أمر مهم جدا، والذي يلعب دورا كبيرا في الانحراف العقائدي، إلا وهو وسوسة الشيطان لعنه الله للإنسان وضعف الإرادة مما يجعله غير قادر على تمييز الخطأ من الصواب، فتصرعه نفسه الأمارة بالسوء، ويصبح أسير الأوهام والمغريات، وإلا كيف له إن يقنع نفسه بأنه المنتظر مع علمه الحقيقي بأنه غير ما يدعي، فإذا كان يستطيع إن يقنع الآخرين بأنه المنتظر من خلال بعض الرياضات أو بعض الأعمال النفسية الشاقة التي توهم العامة، فمن أين يتأتى له إقناع نفسه، بأنه المنتظر إن لم يكن فاقدا للسيطرة عليها بشكل أو بآخر، أما بالوسوسة أو بالتوهم والخيال.
بعد هذا ومن خلال النظر في التاريخ ومجريات الأمور والإحداث في هذا المجال نستطيع إن نحدد عدة دوافع رئيسية واضحة وجلية للانحراف العقائدي عن القضية المهدوية (وهي جواب التساؤل الذي ذكرناه آنفا):
الأهواء والرغبات النفسية والشخصية لدى البعض ممن يدعي المهدوية، فالادعاء يحصل لتحقيق بعض الأهداف الدنيوية ألبحته، فيوهم المدعي للمهدوية بعض العامة ممن لا دين لهم بأنه هو المهدي وانه هو المنتظر الموعود، فيسيرون خلفه فيوردهم موارد الهلكة، وقد أشار الإمام علي (ع) إلى أصناف الناس حينما قال: (يا كميل إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها أحفظ عني ما أقول لك، الناس ثلاثة عالم رباني، ومتعلم على سبيل النجاة، وهمج رعاع إتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجأوا إلى ركن وثيق).
فالصنف الثالث يكون المستهدف دائما من قبل هؤلاء المنحرفين عقائديا، لأنهم اشد تأثرا بالمدعيات والدعوات، وكونهم هم الصنف الأكثر عددا من غيرهم في المجتمع.
حب التسلط والوصول إلى الحكم من قبل بعض المدعين للمهدوية، فيستغلون القضية المهدوية للوصول إلى أهدافهم السلطوية من خلال استغلال عواطف العامة وحبهم وارتباطهم بالمهدي الموعود، فيظهر هذا البعض التدين والإيمان والتقوى ويجذب الآخرين إليه فيعدهم ويمنيهم فيطيعونه دونما تردد لما يرون من ظاهر إيمان وتنسك، ولكن ما إن يصل إلى السلطة وتستقر له الأمور حتى يبدأ بالبطش بإتباعه وبكل من يقف أمامه، وقد سرد لنا التاريخ ما قام به العباسيون من استغلال لهذه القضية لكي يصلوا إلى الحكم، فقد قام المنصور العباسي بادعاء المهدوية لابنه، ولكن ما إن وصل العباسيون للسلطة حتى جعلوها ملكا عضوضا يتوارثه الأبناء عن الآباء.
قيام بعض أعداء الإسلام بتجنيد الجواسيس والعملاء لتمزيق الأمة وإضعافها، فينفذون من خلال أهم قضية إسلامية إلا وهي القضية المهدوية مستغلين عواطف العامة واندفاعهم، لتحقيق مآربهم الدنيئة، في التشكيك بمصداقية الدين الإسلامي وأحقيته على جميع الأديان السابقة باعتباره الناسخ لجميع الشرائع السماوية السابقة.
وخاصة إن المهدي الموعود يمثل الخطر الحقيقي الذي يهدد عروش الكافرين والمجتث لأصول الظالمين.وهذه الدوافع تكاد تكون الأكثر وضوحا على مر التاريخ وهناك الكثير غيرها.
ابرز العوامل التي تؤدي الى الانحراف
قلة الوعي الديني والثقافي لدى أبناء الأمة نتيجة الجهل بحقيقة القضية المهدوية وأبعادها التاريخية الماضوية والمستقبلية.
إذ إن الفرد المسلم لابد له من المواظبة على التعلم وطلب العلم والبحث عن الجذور الحقيقية للقضية المهدوية، والتمسك بالإسلام الحقيقي المحمدي الأصيل الذي غرسه فينا وبينه لنا آل البيت عليهم السلام، من خلال الروايات الصحيحة الواردة عنهم عليهم السلام، وخاصة ما يروى عنهم في الشأن المهدوي.
الفقر والكوارث والنكبات والظروف الصعبة التي تمر بها الأمة خلال فترة الغيبة الكبرى للإمام المهدي (ع)، والتي جعلت البعض يتخبط في مسيره نتيجة قلة الناصر والظلم والاضطهاد من قبل حكام الجور، وخاصة ما يحصل للطائفة الاثنى عشرية المغلوبة على أمرها، إذ أنها ما إن تخرج من محنة حتى تدخل في أخرى اشد منها.
المؤامرات والدسائس الصليبية التي تحاك ضد الإسلام والمسلمين والتي تنهش في جسد الأمة وتنخر في هيكلها العظمي المتآكل نتيجة الحروب الخاسرة التي أفقرت الشعوب الإسلامية وأورثتها الذلة والهوان خاصة مع وجود حكام الجور والفسوق من عملاء الغرب الجاثمين على صدور شعوبهم.
حب الدنيا وطمع البعض فيها مما يدفعهم إلى الاحتيال على العامة لجمع الثروة، وبسط السيطرة والنفوذ على المستضعفين والفقراء الذين يبحثون عن أمل يتمسكون به للحياة فهم بسبب الظلم السائد في المجتمع كالغريق الذي يتشبث بالقشة عند غرقه من اجل الخلاص.
يمكننا ان نتساءل ما هو السبيل للتخلص من هذه المشكلة التي تظهر بين فترة وأخرى؟
بطبيعة الحال إن هذه الأمور كما قلنا ليست غريبة عن الأمة بل هي من الأمور التي ذكرها لنا النبي المصطفى (ص) وآل بيته الأطهار وحذروا منها مرارا وتكرارا، فقد حذر رسول الله صلى اله عليه وآله وسلم من افتراق الأمة وتشتتها، قال (ص): (ستفترق أمتي بعدي على ثلاث وسبعين فرقة، يهلك اثنان وسبعون فرقة وتنجو فرقة واحدة).
وجاء في كتاب الاحتجاج عن أمير المؤمنين (ع) انه قال _ لرأس اليهود _ على كم افترقتم ؟ قال: كذا وكذا فرقة.
فقال (ع): كذبت ثم اقبل على الناس فقال: والله لو ثنيت لي الوسادة لقضيت بين أهل التوراة بتوراتهم وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم وبين أهل ألزبور بزبورهم وبين أهل القران بقرانهم.
افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة سبعون منها في النار وواحدة ناجية في الجنة، وهي التي اتبعت يوشع بن نون وصي موسى (ع).
وافترقت النصارى اثنتين وسبعين فرقة إحدى وسبعون فرقة في النار وواحدة في الجنة وهي التي اتبعت شمعون الصفا وصي عيسى (ع).
وتفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة اثنتان وسبعون فرقة في النار وواحدة في الجنة، وهي التي اتبعت وصي محمد (ص) وضرب بيده على صدره ثم قال: ثلاث عشر فرقة من الثلاث وسبعين فرقة كلها تنتحل مودتي وحبي واحدة منها في الجنة وهي النمط الأوسط واثنتا عشرة في النار.
فضلال البعض عن جادة الحق وانحرافهم عن طريق أهل البيت عليهم السلام ليس غريبا أو أمرا طارئا بل هو أمر اعتدنا على رؤيته في كل زمان و مكان إذ لابد من الابتلاء كي يمحص المؤمنون ولكن لابد للمسلم إن يقي نفسه من هكذا أمور وابتلاءات قد تؤدي إلى الضياع والحياد عن جادة الحق ويحصل هذا الأمر من خلال:
إتباع علماءنا الأعلام ومراجعنا العظام، خاصة في زمن الغيبة الكبرى فان السير خلفهم منجاة للمسلم من الهلكة.
الوعي الديني والحرص على طلب الحقيقة والثبات على الولاية لأهل البيت عليهم السلام يورد المؤمن طريق النجاة والسلامة، ويجنب الأمة التمزق والفرقة.
النأي عن أي جدال أو خصام يؤدي إلى التباغض بين المسلمين ويورث الكراهة بينهم، والحفاظ دائما وأبدا على وحدة المسلمين والدفاع عن أمنهم وسلامتهم من أي خطر يحدق بهم
كذلك الفهم الحقيقي لقضية الإمام المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف، والقيام بالواجبات الشرعية تجاه الإمام أرواحنا له الفداء، من خلال الدعاء له بالحفظ وتعجيل الفرج والنصرة له قولا وعملا، فالإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف محيط بنا علما وغير مهمل أو ناسي لمراعاتنا كما جاء في التوقيع الشريف (فانا نحيط علما بأنبائكم، ولا يعزب عنا شيء من أخباركم.
إنا غير مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكركم، ولولا ذلك لنزل بكم اللاّواء، واصطلمكم الأعداء) عجل الله تعالى فرجه الشريف.
كما انه يجب علينا التثقف بثقافة آل البيت عليهم السلام المهدوية من خلال الاطلاع على الأحاديث النبوية الشريفة والروايات الصحيحة في هذا المجال كي يكتسب المسلم الحصانة الذاتية تجاه أي تحرك يحاول استغلال القضية المهدوية لإغراض شخصية.
وأخيرا ندعو الله عز وجل إن يحفظنا من مضلات الفتن، وان يجعلنا من الثابتين على ولاية محمد وال محمد (ص)، (فعن الإمام الصادق (ع) انه علم زرارة هذا الدعاء ليدعو به في غيبة الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف وامتحان الشيعة: (اللهم عرفني نفسك فانك إن لم تعرفني نفسك لم اعرف رسولك، اللهم عرفني رسولك، فانك إن لم تعرفني رسولك لم اعرف حجتك، اللهم عرفني حجتك فانك إن لم تعرفني حجتك ضللت عن ديني).
المصادر
1. موسوعة الإمام المهدي (ع) معجم احاديث الامام المهدي (ع) المؤلف: الهيئة العلمية في مؤسسة المعارف الاسلاميةتحت اشراف سمـاحة حجة الاسلام والمسلمين الشيخ علي الكورانينشر: مؤسسة المعارف الاسلامية الطبعة: الاولى 1411 ه. ق المطبعة: بهمن
2. مفاتيح الجنان، الشيخ عباس القمي تعريب محمد رظا النوري مكتبة الفقيه الكويت السالمية 1986
3. الاحتجاج تأليف ابو منصور الطبرسي من علماء القرن السادس.مؤسسة الاعلمي للمطبوعات 2000
4. الفرقة الناجية، السيد محمد الموسوي الشيرازي تعريب الشيخ فاضل الفراتي ط1 2000
5. بحار الأنوار ،المجلسي الطبعة الثالثة دار احياء التراث العلمي العربي 1987
6. مجلة الانتظار، العدد الخامس
7. مكيال المكارم السيد محمد علي ابن العلامة السيد مرتضى ابن الميرزا محمد علي الموسوي الأبطحي الأصفهاني طبع في طهران مطبعة كوكب سنة 1361 ه ش
8. الاجتهاد والتقليد، الشيخ محمد مهدي الآصفي الطبعة الثالثة1410 دار انصاريان للطباعة
9. دعوى السفارة في الغيبة الكبرى، آية الله الشيخ محمد السند دار البلاغة بيروت لبنان ط1 1992
10. الغيبة، النعماني تحقيق فارس حسون ط 1 1422مطبعة مهر قم
11. المعجم الموضوعي لأحاديث الامام المهدي تاليف الشيخ علي العاملي ط1 لسنة 1411
12. تاريخ ما بعد الظهور للسيد محمد صادق الصدر
13. مفردات القرآن الراغب الأصفهاني، تحقيق مركز الدراسات ط 12/1999 مطبعة نزار مصطفى مصر
14. الوافي الفيض الكاشاني، ط 1 مكتبة الامير علي (ع) اصفهان ايران 1406
15. نهج البلاغة .علي بن ابي طالب جمعه وبوبه الشريف الرضي مؤسسة المعارف بيروت
16. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي .تحقيق محمد ابراهيم دار الكتاب العربيط 1/2007
17. إعلام الورى الشيخ الطبرسي تحقيق مؤسسة ال البيت للتراث قم ايران ط1/1417