کد QR مطلبدریافت صفحه با کد QR

17 شهريور 1394 ساعت 10:25


وجهة التاريخ والإنسان نحو الخلاص الكوني
الدكتور جويده غانم
مقدمه
لم يكن بالإمكان أن تظل الإنسانية الحقة مشوهة في صميمها القدسي، أو في صميمها التاريخي، أو في صميمها الثقافي، ولكن حتمية التنازلات التي توجهها تلك الصراعات العنفوية، وارتباطها الدائم بالعدوان والتدمير والخوف والتستر ضمن شعارات موهومة كان الغرض منها هو بناء وتصميم خارطة ثقافوية ومركزية جيوبوليتيكية يتحدد بموجبها إلغاء الآخر أو إخضاعه لفلسفات وسياسات هذا المركز الذي سعى دوما في تملك جميع العوامل وذلك بخرق قوانين وتعطيل الإرادات وتكوين صور نمطية وتعكس ما يراد تحقيقه، في مبدأ التحقق الذي يكيفه عبر مصلحته البراغماتية مستندا إلى دواعي التاريخ وهرمنيوطيقاه الخاصة المشحونة بأساطير غيبية دافعة إلى تحقيق ذلك الحلم بامتلاك كل العالم، وطبعا كل العالم مهما تعددت أعراقه وألوانه.
ليس الغرض من كل هذا هو تجميع المسكونية في وحدة من السلام والأمان والسعادة والتعايش وإنما الغرض التجميع هو سحقها وإلغائها من خارطة الإنسانية عبر منافذ مختلفة من وسائل الإعلام إلى كتابات المنظرين والمفكرين، إلى حقول الثقافة وتطبيقات رجال الساسة، وتكتيكات جنرالات الجيش والقادة.
هنا يحتوي يحضر التاريخ المضاد تاريخ المقاومة والمنازلة، تاريخ خلاص شعوب العالم القديم التي حققت مبدأ التمركز في عهدها الأول، الغرض من هذا الاستحضار والاسترجاع هو إعادة التجربة بكل حذافيرها ولكن بشرط مراعاة عوامل العصر وتطوراته قصد وجدان الخلاص في رؤيته الكونية التامة والثاقبة التي تجنح إلى وضع محددات تحسم الجدل في منح كل الإنسانية إمكانات التقدم والديمقراطية والحرية، ومن هذا المنطلق يطرح التساؤل: ما طبيعة المحددات الخلاصية في الرؤية الكونية الخاصة للثقافة المهدوية ؟
إنسانية الصراع حول مبدأ التحكم
إن الإنسانية اليوم قد ظلت سواء السبيل وقيمتها أن تصحح مسارات توجهها عبر مختلف النظريات التي استجلبتها من ماضيها القدسي كي تعتزم في هذه اللحظات الآنية إصطباغ نموذج جديد في المواجهة والتصدي لكل الأصنام السلطاوية المصدرة عبر سياسات وفلسفات قاتلة لاغية لوجودها، هذا الصراع يجعل مفهوم الإنسانية ينشطر إلى شطرين:
إنسانية انتهازية إرهابية لاغية لوجود الآخرين وبالتالي فهي انتهازية وحشية غضة وفضة.
إنسانية إنسانية تبحث عن الصمود وتأكيد الذات والبحث في هذا العالم عن مكانتها ومحور كينونته.
وإذا أردنا البحث عن مستقبل جمع شتات العالم علينا أن نبحث عن ذلك المعنى السام للوجود والزمان والإنسان وأن نرتفع بالحياة إلى أعلى درجات سموها، لأن إرادة القوة والثبات والتحول ستستجمع فيما بعد ويستحضر خطابا خاصا يكمن في استقطاب بمسارات تاريخية ونفسية مرتبطة أشد الارتباط بمبدأ التحقق الذي يحمل فكرا واعيا يراد منه أن يتمخض بنتائج أكثر واقعية يدرجها ضمن مشروع خاص، حيث يحول ماضيه القدسي إلى إنيات حاضرة، ومستقبلا ينطوي ضمن دلالات تقابلية بين الآنا والغير، اللذان يدخلان في علاقة تضايف لإعادة لحظات جدلية تتركب على مقاومة الذات لتجارب وصراعات مختلفة بحيث تستفيد منه فيما بعد لتصدير فلسفة خاصة جديدة في المواجهة والمقاومة.
إن الاعتبارات السابقة هي في حد ذاتها واقع أمر يؤكد لنا دائما أن مغادرة الحاضر أو الرجوع إلى الماضي يستدعي أن نأخذه في حد ذاته لأن العمل الماضوي يتحدد بضوء الأسئلة التي توجه إليه من الماضي نفسه كما أن هاته الأسئلة، ستنتظم في طريقة خاصة، تسترشد بها أنفسنا عبر فهمنا لهذا المستقبل وبالتالي يجب الإجابة عن السؤال الذي يكسف عن مستوى التجربة الإنسانية الذي لا يمكنها سوى تأييد وتأكيد الجملة التي تصفها باعتبارها سؤالا يقتضي منها الاستدعاء والطلبية، كما أنه يكشف عن شيء يعطى لنفسه التمتع بحركية الإعطاء والتقدمية في الحدوث الذي يبرهن أن هذه البشرية قادرة على إحداث وحدة مجتمعية تنضوي ضمن محددات خاصة لنوعية الخلاص الذي ستتبناه فيما بعد، ويمهد بدوره إلى فلسفة تنجيم لمستقبل مشرق يتعين بالاستقلالية عن التبعية كما يتعين بمعايير العلم والتكنولوجيا، لأن القوة معرفة، والمعرفة قوة وسلطة وهاته المعرفة القوة، والسلطة، ستخضع السياسة المستقبلية إلى لغة سيادة خاصة، هي لغة السياسة الحديثة التي تلتزم بجملتها على أساليب في التوجيه والإقرار بمطالب الإصلاح والقضاء على الإرهاب المفتعل مهما كان نوعه وشكله.
في ضوء هذا الأمر، فإن عالمية الأفكار الخاصة والتي تريد الأطراف تحقيقها لإعادة مجدها الإنساني والتاريخي والمركزي ينبني على تفتيت خطط القوى العظمى، لكي تصبح دول الأطراف عظمى في الآن ذاته وهذا لا يتأثر إلا بالاستفادة من تجارب ودروس التاريخي أولا هذا ما فعلته الولايات المتحدة الأمريكية اليوم في فرض سيطرتها على العالم وذلك وفقا لنظريات خاصة نظر كل من ألفريد ماهان*، وهالفررد ماكيندر**، ونيكولاس سبيكمان***، ولكن ذكاءها اليوم جعلها تتخطى الخطأ التي وقعت فيه كل من بريطانيا باعتمادها على نظرية مهان التي تتعلق بدور القوى البحرية في السيطرة كما تجاوزت الخطأ الذي وقعت فيه النازية الهتليرية حينما اعتمدت على نظرية ماكيندر عن قلب العالم ومحوره، ولكن الطابع الانتقائي في الفلسفة الأمريكية جعلها تأخذ بطابع الانتقاء في السياسة والسيطرة أيضا، فأخذت من نظرية ماهان ونظرية ماكيندر ونظرية سبيكان وهذا ما نلاحظه في محاولتها المتكررة لبسط نفوذها كاملا على الخليج الفارسي بعدما استحوذ مشرعها البحري على كامل الخليج العربي ومضايقه، متبعة نهج الاستراتيجية المتحركة، بحيث تتحرك في كل مرة بصفة مختلفة، واستفادت من نظرية سبيكمان في إعطائها أهمية قسوة لمنطقة الرملاند التي تشتمل على مناطق شبه الجزيرة وإيران والعراق، وأفغنستان والهند وجنوب شرق آسيا والصين وكوريا، وشرقي سيبيريا وحجتها في ذلك أن هاته المناطق كانت أكبر دول العالم، وقوى العالم في فترات زمنية ماضية كان لها النجاح أن تطوق العالم بإديولوجيتها وسيطرتها حيث وصلت إلى تولوز على الحدود الفرنسية غربا، التي كانت تحت لواء الفتوحات الإسلامية، والفتوحات العثمانية التي وصلت إلى شرق ووسط أوروبا، هذا ما دفع بسبيكمان إلى ضرورة منع هذه التجارب من التكرار داخل المناطق المذكورة أنفا كي لا تقوم أي قوة وأي سيطرة في مراكز العالم القديم ومن هاته الملاحظة ندخل في الموضوع من بابه الواسع على أن إشارة التخطيط للمستقبل يجب أن تفهم على أساس دقة التحكم في مصير شعب من الشعوب وهذا لا يتأتى لدول الأطراف إلا إذا استدعت تاريخ الماضي، لأنه هو الذي يمكنها من إدراك كنه الحاضر وتوجهاته المستقبلية كما لا يتحقق هذا الأمر إلا إذا أخضع إلى مقاييس خاصة تتحدد وفقا لمبادئ لفنون القيادة والتوجيه التي يستجليها علم النفس الاجتماعي لينقل مدارات توجه التاريخ والزمن ومختلف التشكيلات الثقافية من القوة إلى الفعل.
هرمينيوطيقا التاريخ والإنسان في مدار الفعل الكوني
ينبني هذا العنوان على نظريتين حددتها تلك المقاربات النفسية والثقافية والإنسانية لا نجد صداها إلا في تحليل عمقها من زوال الزوايا البينية وهي:
النظرية الوظيفية: (Functional Theory) التي تهتم بدراسة خصائص الجماعة وأهم المواقف التي تحتويها فلسفة القيادة من حيث تحريك الأهداف ودفع الجماعات نحو تحقيقها.
النظرية التفاعلية: (Interational Theory) وهي التي تعتمد على مبدأ التكامل في متغيرات القيادة كأن تراعي تنفيذ برامجها من خلال شخصية القائد والأتباع والجماعة من حيث بناء العلاقات الفردية وتنويعها واختلافها، ومراعاة لكل المواقف، وما يجدر من تغيرات مجتمعية ومحلية وعالمية ومدى التأثر والتأثير التي تقدمه هاته النظرية لتنفيذ برامجها وخطط الجماعة .
هذا ما يتوجب إعادة قراءة في الذاكرة الجامعية لتاريخ الأمم عبر توظيف كل قنوات الاتصال ومنافذ الثقافة لدى جميع شرائح المجتمع بكل طوائفه الدينية والإثنية، ومن ثم سنكون نحن استدفاع لمنهج ديمقراطي خالص يوقف مصلحة الفرد عند الحد الذي يتفق مع الصالح العام للمجتمع.
لأن الأمر يجرنا إلى الحديث عن اجتناب الخلافات في المجتمع الذي يتعدد فيه الدين واللغة والعنصر البشري إذا ما أريد تحقيق الخلاص بمعناه الاستراتيجي المستقبلي وهذا ما يحفز الدولة الباحثة عن السيادة والمركزية في التقليل من حجم الصراعات الناتجة عن تصادم الأفكار والأطروحات، وأن تأخذ هذا الصراع على أساس التعدد والاختلاف باعتباره سنة كونية داخل أي مجتمع، لا على أساس تصادم صراع دموي مسلح انتقاء عنصري (لأن استبعاد الآخر عقائديا ليس مجرد موقف معرفي نظري إنما هو موقف له وظيفته السلطوية، وهي الحفاظ على وحدانية المرجعية باحتكار المشروعية، النموذج العقائدي يقر للغير بأي مصداقية أو مشروعية لأن من شأن هذا الإقرار زعزعة سلطته العقائدية أو التشكيك بيقينية معتقده وأحقيته الأمر الذي يفقد مبرر دعواه ودفاعه) .
وإذا ما طلعنا حركة الإصلاح في أوروبا فإننا نجد الإخفاق الكبير في عدم امتزاج الأجناس فيما بينها وكذلك إذا ما إستقرأنا الحوادث التاريخية تذكرنا بالأعمال الشنيعة للولايات المتحدة في جنوب إفريقيا، وما فعله الجيش الصربي في البوسنة والهرسك ومناطق الجبل الأسود ودول البلقان الإسلامية، وما أحرزته لبنان في الثمانينات من تصدع في بنية مجتمعها لو لم يقضى التدارك لهذا الأمر، ونفس الأمر يستحق الحديث عنه في هذه الورقة عما يجري في إيران اليوم من محاولة تفكيك قهرية لكل أنظمتها وأجهزتها التشريعية والتنفيذية ليس الغرض من هذا هو إعادة مفهوم الديمقراطية لهذا البلد، وإنما هو تفكيك جميع بنياتها واستغلال اختلاف طبقاتها السياسية والدينية لتفتيت شمل هذه الدولة قصد السيطرة على منطقة حساسة في الخليج الفارس، هذا الأمر سيقود حتما إلى إعاقة وشلل في جميع مؤسسات الدولة كما يعيق الائتلاف الفردي التعددي والامتزاج الديني الطائفي.
إن استفحال هذا التناقض داخل الدولة يجعل البنية الرئيسية لجميع تنظيماتها الإستراتيجية إلى الانهيار، وفلسفة القيادة تقتضي تحقيق الديمقراطية لجميع طبقات المجتمع وكيفية التحكم في زمام الأمور الداخلية لدولة ما، كفيل بتحقيق المركزية والخروج من قوقعة الطرف، ومن ثم بناء شعار الدولة الديمقراطية واستكماله في حضارة وثقافة، لأن طريق التعصب سيؤول إلى انشقاق ما، وتداركا لهذا الأمر، على الدولة أن توجه إدراكاتها إلى النظر والتمعن لتلك الأديان الحية التي تنبه وتعلم بنيها على أن ينظروا إلى من يخالفهم لا بعين الاحتقار والمهانة مثلما يشهد واقعنا اليوم في كثير من أرجاء عالمنا الإسلامي بل ينظروا عليه بعين الاحتضار والارتقاء والرفق والمحبة كأعضاء عائلة واحدة، خالقهم واحد وقد تساووا في المصير والمآل . وتظهر قيمة هذا القول في كون أن الكثير من النظريات الأمبريالية وما بعد الكولونيالية، تتوقف عليها باعتبارها نظريات فلسفية خاصة أولا، وعلى كونه تأثر في التظم الاجتماعية ثانيا، وعلى أساس أنها تمزق الوحدة الوطنية والإقليمية ثالثا، فالبحث لا يتعلق بالجانب النظري فقط وإنما بنتائج مترتبة آنيا ومستقبليا سيكون لها الأثر الأفضل في كثير من شؤون الحياة والعمران المدني والسياسي والاقتصادي، إن المجتمع الفاعل والقيادة الفاعلة هي التي تجنح إلى تحقيق القدوة والقومة الثقافية التي ترتبط في مثل هاته الحالات بفعالية المنتظم السياسي وبنجاح اتخاذ القرار الذي يؤدي إلى تعبئة في الموارد الإنسانية والمادية ومختلف الخطب الإديولوجية، لأن أمر التعبئة يتطلب تعاونا جماهريا واسعا تتحدث فاعليته عبر منافذ وشبكات المقاصد الديمقراطية.
لازلنا لحد الآن نتكلم إلا عن حقوقنا المهضومة ونسينا الواجبات باعتبار الواجب يصدر عن مبدأ القانون، كما أنه يستلزم الانتقال إلى الوعي الخالص في التحقق العملي الذي يكتسي طابعا حسيا يتحول بعد ذلك إلى دافع محقق محكوم بالإنية الماضوية التي تسترجع بدورها تجربة الخلاص من إطارها العقدي إلى قطاعها الاستراتيجي الإقليمي المركزي.
لأن الشعور التاريخي هو النور الذي يوضح تاريخية الإنسان، و يتبدى في كل حياة يراد فيها إدراكه نحو العلو، أي إدراك جيد و حقيقي من خلال المواقف التي أوجد فيها محاولة الخروج عن كل الأنماط المفروضة عليه، إن العلو في ذاته هو ابتغاء تأويليا نحو تحقيق إمكانات و فرصا جديدة تقتضي الوحدة بين التاريخي الماضوي، وبين الغنية الحاضرة والمستقبلية، والغرض من كل هذا هو، تحقيق الصمود و المواجهة مهما كان شكلهما، لأن البحث عن المركزية و الرغبة في عودتها ن لا يتأتى إلا بفقه خطاب العودة التاريخي الثقافي و الإنساني.
وعلى هذا المنوال فإن الاستعانة بالتاريخ سيضفي على الواقع صفة التجريد الذهني أكثر فأكثر، والمتأمل في التجارب التاريخية المختلفة يجد هذه الخاصية الشعورية المختلفة حاضرة بكل حذافرها، لكنها تحتاج إلى من يصقلها في الإطار النظري والعملي لتسترشد به الذات في مآزقها.
لقد أحرق طارق ابن زياد السفن وقال لجنوده العدو أمامكم والبحر خلفكم فأين المفر ! أي ليس هناك خيار ولا مفر من التقدم نحو ضرب العدو بأسلحته وسياسته، في عالم تعددت فيه الأطماع وتوسعت فيه المكاسب، ولذا يجب على طارق الحديث التعرف والعودة إلى طارق التاريخ، لأن طارق الحديث مازال مغتربا لم يستطع أن يمزق الزيف الذي تأطر داخل كينونته واحتبس فيه.
ولعلنا نلاحظ عدم القدرة لخلق أنفسنا من جديد، والحديث يجرنا إلى أن الحقوق تأخذ ولا تعطى لأن الحق ليس هبة أو هدية ولا غنائم تأخذ وتغتصب، وإنما هو نتيجة حتمية للقيام بالواجب، إنه الواجب الخاضع لعدل للوضع الاجتماعي المنبني على ارتباط قويم في السلوك النفسي والثقافي.
ومن هنا نتساءل ماالأنماط التي يمكن الكشف عنها في الزاوية التاريخية حتى نحقق اللحظة الكنطية إذا أمكن للعقل أن يعقل فلابد أن يفعل؟
هل نكتفي بمقولات المواجهة والتصدي أن نستدعي ترشيدات خاصة نابعة من التكوين الاجتماعي والسياسي المرتبط بالإنسان الحديث والمعاصر المستلب في بقعة جغرافية خاصة، مفضلا عدم الخروج عن قطعان الماعز، لفشله في خلقه لقيم خاصة تفتقد للعناصر العلمية التي تؤهله إلى تجاوز الإرهاصات السلبية ؟
إنه يفتقد إلى المخيال المستقبلي الذي يؤهله إلى نظم أمور في إطار زمنية خاصة لا تتعلق بالأوهام بقدر ما تتعلق بمشروع تعبوي خاص، يراع اندراجه في أن يضع حدا لبأسه وبأس العالم، والسعي نحو سعادة كل البشر، وفي هذا الصدد نستذكر نظرية إدغار موران الموسومة بنظرية المركب الملتحم التي كادت أن تغير أن مجرى الأبحاث الاجتماعية والفلسفية، حيث ساهمت في ظهور نزعة عقلانية جديدة ارتبطت بتقدم العلوم والمعارف على مستوى النظريات الفيزيائية والرياضية وانطبع هذا الجديد الفيزيائي والرياضي على الجديد الاجتماعي والإنساني، والهدف هو دراسة البنية الاجتماعية ليس في تطورها الذهني الفردي الطبقي، وإنما في دراسة دهنه الإدراكي، هذا الأمر يستطيع أن يوجد مفهوم المركب الملتحم الذي سيكون خارطة إدراكية جديدة في التنبؤ و الاستمرارية.
وهذه العلاقة تتردد علينا في مجال الأفكار المطبوعة و الموضوعة التي ستبين مدى مستوى التقدم و التأخر في الاستعاب و المقاومة وكذلك الانجاز، فالأفكار المطبوعة: قد أثارت عواصف في تاريخ الإنسانية منذ أربعة عشر قرنا، فقلبت المجتمع الجاهلي رأسا على عقب .
في المجال المادي: ارتسام آثار جديدة  نتائج اجتماعية جديدة  موارد قديمة.
في المجال الثقافي: مقاييس كثيرة  طرق تفكير جديد  أنظمة جديدة  مجتمع جديد.
في المجال النفسي والأخلاقي: خلق مراكز جديدة  سموا ورفعة واستقطاب (مشورة الرسول صلى الله عليه وسلم لسلمان الفارسي حول قضية حفر الخندق).
أما الأفكار الموضوعة: فهي التي بترت جذورها عن الثقافة الأم، الثقافة الأصل حيث لم تتمكن في التعبير عن أي شيء فمصيرها الاضمحلال والموت والفناء في سلبياتها التي أردفتها إلى سكونية جامدة لا تعرف الحركة ولا التغيير .
هذا ما تشهده اليوم أغلب بلدان العالم الإسلامي من اضمحلال وتنفس بالتفكير المنطقي لحل مشكلاتها ومحاربة أعدائها ولو رجعنا إلى التاريخ القديم لوجدنا إسهاماتهم في جميع الفروع المعرفية من فيزياء ورياضيات وفن وجمال وهندسة كان نتيجة الانصهار التام داخل المنظومة الحضارية الخاصة نتيجة لتفوق الأفكار المطبوعة، على الأفكار الموضوعة.
إن السؤال الذي ينتاب الإنسانية اليوم، وينتاب المجتمع الإسلامي بالخصوص هو كيفية تبادل الأدوار وإعادة إدراكها من جديد قصد قراءة التجارب الماضية وإعادة تأسيس المنهج المستقبلي للاستشراف على ضوءه وهذا لا يتأتى إلا بمجهودات تتأسس على عوامل فقه التحضر والشهود الحضاريين، فثمة الخلاص المعنوي والمادي والكوني.
إن واقع الخلاص يشير إلى تدارك وجهة رئيسية كونية خاصة على مستوى التاريخ على مستوى الإدراك الإنساني، و هذه الوجهة تتعلق بمرتكزات علم الاستشراف الذي يعلو على التاريخ وبواسطته يمكن أن نعيد النظر إلى جميع مركبات الثقافة البشرية في جميع تجلياتها، غير أن هاته النقطة غير موجودة لدى الإنسان الثالثي، لكونه ينظر لنفسه ككائن تاريخي متناهي، من زاوية واحدة فقط، ويفهم من زاوية موضوعه الخاص بالزمان و المكان المتواجد فيه فقط، و ليس بمقدوره أن يقف فوق نسبية و مطلقية التاريخ و يظفر بمعرفة خاصة عالمية، متقومة على أسس علمية في المنهج و الرؤية، وهذا هو منطلق الخلاص الحقيقي لا الزائف.
هذه القضية تدعنا دوما إلى تكرار السؤال و تعميق طرحه بما يلي:
لماذا هذا التصور الناقص على مستوى التجربة الذاتية الخصوصية لفلسفة الدور التاريخي ؟
و لماذا هذا الإقرار الهزيل في إصدار الأحكام، و نحن ما زلنا على عتبة بداية الخلاص الكوني ؟
الإجابة هو أن المنظومة الغربية تسعى دائما إلى تفعيل ذاكراتها الإستشرافية القديمة و السعي إلى نشر نقاط بث خارج دائراتها المسكونية و المعرفية، ومن ثم تعكس ذلك الصوت أو الصدى في ذهنيات الإنسان فتولد فيه صدى محفوفا بالخوف والفشل يمنعه من إحياء لغة الحماس في حالة ما أريد إيقاظه وفقا للغة السيادة المطلقة على اللغة الدينية والفنية والأخلاقية، هذا ما دفعه أيضا لتطوير أدواته اللغوية للتشويش على صحوة الحماس الثوري الذي رافق الدعوة الخمينية قصد تبريد الخمينية في جميع كياناتها.
وخبرة الغرب في هذا المجال مدفوعة إلى تحقيق كونية خاصة به نابعة عن مفهوم جديد لنظام عالمي جديد، الغرض منه هو المزيد من التفكك والانفصام في وحدوية* مناطق العالم المنخفض، والتخلص من هاته البنيات هو البحث والتنقيب عن طرق خاصة في الفهم والتأويل يستدعي في ذلك منطق الفلسفة العملية الذي يقوم على ميزة الاختيار الاحتمالي واختبار أفضله وأقربه إلى مبدأ التحقق وهذا ما أكده إدغار موران على أن نحلم ونوسع المخيال شريطة أن لا يبتلعنا الحلم وينسينا الهدف الأسمى باعتبار أن التاريخ يتعلق بدراسة الممكن واللا ممكن.
إن الحديث عن هذا الحلم هو الحديث عن التاريخانية والعقلانية والادماج بينهما، باعتبارهما سلوكان فكريان لا ينفصلان البتة، لأن العقلانية هي جعل العقل حاضرا في التاريخ الذي ينظمه ويرتبه، وينسقه ويوجهه نحو دائرة الوعي واستكمال التجربة، كما يعمل على تحريكه في أصعدة النظر والتطبيق الفعلي، كما أن التاريخانية حاضرة في العقل، وتلهمه الدروس والعبر وتجعله من حين لآخر يراجع تصوراته ويفحص مبادئه، ويطور طرق إبداعه وإنتاجه.
وبالعودة إلى الحقل التراثي فإن الاستنجاد به في مثل هذه الظروف واجب، وذلك عبر تطويعه وإحياءه ضمن طوباوية خاصة، لا تعيقنا على الحركة بل تدفعنا إلى تحقيق المشروع النهضوي الذي لاحظناه في مخيال الكثير من المفكرين والمجددين، وهنا تكمن الرؤية الحداثية للخلاص الذي يستجمع مختلف الأواصر التي تربط أبناء الوطن الواحد.
الثقافة الخلاصية في الخطاب الوطني
ولأن خطاب التاريخ هو خطاب وطني، والخطاب الوطني هو خطاب إنساني، والخطاب الإنساني هو خطاب خلاصي، فإن هذا الأخير يهدف إلى بناء وحدة الهوية وحمايتها، كما أنه جواب موجه إلى كل الاستفزازات التي تهدف إلى تذويب الشخصية الوطنية ومحو ملامحها، ولذلك فإن مقومات الخلاص التي هي مقومات الثقافة الوطنية ذاتها، تتحرك بمكانيزمات خاصة للدفاع عن عمق تاريخا والتدليل بحضورها الحسي بالرغم من محاولات طمسها وتشويهها.
كذلك تتمثل الثقافة الخلاصية عبر صور جديدة تساهم في تفكيك بنية الوعي اتجاه أنظمة الوصل والفصل المتعلقة بالثقافة السائدة على مستوى الجهوية الإقليمية الخاضعة لضغط أجنبي، الذي تجدر عبر منافذ كولونيالية إلغاء مفهوم الدولة الحديثة، الدولة الديمقراطية التي تساهم في حماية شعبها باعتباره قضيتها والإنصاف في بث القوانين الذي هو عقلها وإرادتها، والوئام المدني الذي هو صدقها وعافيتها والاضطرابات المدنية التي هي دائها واشتعال الحرب الأهلية موتها وانتحارها.
إن هذا الأمر يفرضه العقد السديد لكن الغريزة العنفوانية تحيزه لطرف ما بحكم أن منطق القوة هو الذي يتسلط، غير أن لهذه القوة محددات و مرجعيات خاصة طبعا للتوجه العقائدي و الفلسفي كما أن المعرفة الخالصة والعلم الخالص، وما دخل ضمنه من تقنية ودين وفلسفة ومجمل المحاور الثقافية هو أساس قيام الدولة وتشكلها كما أنها وسائل تعتمد عليها أي أمة في تحقيق خلاصها باعتبارها اساسا للهوية، كما أنها المكون الرئيسي الذي تتخذه من الدستور تشريعاته وأحكامه لأنها ذلك الروح والجوهر الذي يتفاعل مع المحددات الثقافية لتي لا تستطيع بدورها أن تختار جانبا واحدا في تشكيل كينونتها ومن ثم مواجهة الكينونات الأخرى، عبر التمايز والاختلاف.
لا غرو في أن تكوين الدولة الحديثة – أي الدولة الديمقراطية – تبحث عن معنى عملي وعلمي يدفعنا إلى استعادة ماض خاص، نسخر له كل المجهودات لبحثه أو دمجه، لإصدار موقف يجعل التاريخ والتراث والإنسان يخاطبنا في كل لحظة وعبر محطات العقل الحر (الذي لا يجزع إذا رأى من الآراء ما يخالف المألوف فله المطلق الحق في أن يخلق من الأفكار الجديدة ما يستطيع، أما العقل المستعبد فهو الذي يرى صوابا كل ما له ماض طويل، وكل ما يبدوا اعتقاده سهلا، وكل ما هو نافع، وأخيرا كل ما ضحى من أجله فلا يود أن يتصور أن كل هذه التضحية ذهبت عبثا.
ويستطيع القارئ لهاته المفاهيم والنمذجات أن يستقرأ الماهية الحقيقية للإنسان المقاوم، الإنسان القائد، الملهم والكاريزمي، الذي يواجه الآخر ويكون بذاته رأس الدولة الحديثة، وممثلها الشرعي، فينتقد كل تأخر ذهني للإدراك التاريخي الإقليمي التابع له، فضلا عن ذلك يستدعي تمثلا واضحا بالتاريخ الغربي بكل انتصاراته وانهزاما ته، ليغوص في البنيات المذكورة ويعيد توجيه آليات القراءة، فينتج خطابا جديدا يقوم على المشرحة النقدية التي تخرجنا من ذلك الفكر الغير القادر على تحويل ردات الفعل إلى أفعال معرفية خلاقة تساهم في إنتاج مقولات ونظريات تعيد بناءه من حيث الموقع، ومن حيث المطلب، ومن حيث الموقع، ومن حيث آلية الخطاب وصدقيتها.
وإذا لاحظنا أهوال الحرب وفظائعها في ظل الأنظمة الشمولية التي لم يستطع لا العلم ولا الإيديولوجيا ولا القانون الإنساني التصدي له وإيقافها، لذا نستخلص أن الاعتماد على الحقيقة والتقدم أو الثورة ليس كافيا لتحقيق مطلب الكونية والسيادة العالمية، ولقد تساءل فرونسوا ليوتار إلى أي حد ستظل الحكايات المشروعة الكبرى معدومة المصداقية في ظل الظروف السابقة والآنية ؟ ولكنه يجيب بنفسه قائلا: إن الحكايات السابقة لم يعد لها أي مصداقية، وما اقصده بالميتا حكاية، أو الحكاية الكبرى، هي تلك السرديات التي تضفي الشرعية على حدث ما، وانزوائها لا يمنع مليارات القصص الصغيرة والأقل صغرا في الاستمرار في لب نسيج الحياة اليومية.
وهاته الحكايات والسرديات لها الدور الكبير في تثبيت الأجهزة الاستعمارية للغرب المتحالف، وخلق صور نمطية غير حقيقية التي يصدرها عبر مختلف الأجهزة.
إن الغرب يريد أن يجعل كل العالم أفغانستان، انطلاقا من أفغنة العراق، إلى أفغنة إيران، إلى أفغنة سوريا، إلى أفغنة كل العالم، تقصيا على رجال القاعدة، ونظام الطالبان على حد زعمه، والذي بإمكانه أن يلعب كل هاته الأدوار والأوراق هو الاستشراق السياسي القديم، (الذي لا يزال يملك قابلية فذة على إعادة إنتاج نفسه وأدواته ووظائفه في صورة ما بعد الاستشراق، الشرس العدواني المضلل، الذي لا يكاد أن يتوقف عن نشر الصور الزائفة عن العرب والمسلمين.
والمتأمل في التجارب التاريخية من الزاوية النقدية يلاحظ مدى تطور هذا التنظير ومدى مساهمته في خلق مخيال جشع إستطاني، يستند إلى مخيال عقدي توراتي، تلمودي، أساسه الاستحواذ على العالم وجعله تحت مخالبه، ومضلته القانونية والسياسية، وفي ضوء هذا المستند يكون الخلاص الكوني لدى التجربة الغربية.
وإذا كانت هذه النضرة الاستيطانية تهدف لتحقيق خلاص خاصة بها، فأين خلاصنا نحن بالرغم ما نتعرض له من آلام واضطهاد وتصدع في جميع المستويات ؟
تلك هي أسئلة الأزمنة القديمة والحديثة، لا نجيب عنها في كليتها الآن ولكن سنتركها لمفعوليات الأحداث والوقائع، وتطور في الخطابات والمواقف، حين ذلك سيكون لنا الدور، وسيعود لنا التاريخ، وستكون لنا الريادة والقيادة في طرد الكولونياليات البيضاء والسوداء من جغرافياتنا الفكرية والإقليمية.
خاتمة
وعلى ضوء ما سبق فإن التوجه إلى بلورة كونية خاصة والترشيد لها، ينطلق عبر قنوات مختلفة للعقلانية وأطرها، التي يجب أن تتوفر في المجتمع المدني والذي يوزع بدوره هاته الأدوار في ثقافة خلاصية تحمل مقومات النهوض والصمود، المنبني على حسن التصرف اتجاه ما يطرأ من متغيرات على الساحة الدولية والإقليمية، وعلى الساحة الثقافية، والمذهبية الدينية، لأن فلسفة الخلاص باعتبارها فلسفة استشرافية مستقبلية، فإنها تقتضي تحيزا خاصا يمليه ذلك الماضي القدسي والحاضر الآني، والمستقبل المشرق بجميع إمكاناته وعطاءاته، في ضوء التحدي التي ترفعه وتتبناه فلسفة المواجهة، هذا ما يجعلنا نقر بما يلي:
- التوجه بكل إنفتاحية لفهم ذواتنا وذوات الآخرين، وفهم خطاب الغرب المعاصر، من خلال فهم خطابه القديم قصد تكسير اللغات التحكمية من طرف نظريات ما بعد العولمة وما بعد الحداثة.
- حسم الجدل حول مسألة التمثيل الديمقراطي داخل المجتمع لأن الدولة لا تستطيع أن تواجه الآخرين إلا إذا وعت حقيقة الديمقراطية في جميع الميادين ووزعت أدوارها على جميع البنيات الاجتماعية، ومن ثم اجتناب الموهومات السياسية، التي ستجرها إلى حرب أهلية داخل قطرها.
- يجب أن نفرق عن ماذا نتكلم وكيف نتكلم، وعلى أي أساس نتكلم لنطالب بمشروعية النضال والتحدي، المنطلق من ثقافة واسعة، ثقافة الماضي والتاريخ المجيد، وثقافة التاريخ الحاضر وفقا لمنطلقات إيديولوجية تحافظ على سلامة الإقليم.
- استرجاع الماضي وكيفية توظيفه في معالجة الأزمات بعين حاضرة، وعين مستقبلية واعدة.
- احترام الخصوصيات وإيجاد فلسفة خاصة لمواجهة النزاعات الداخلية والخارجية وضرورة فرض ما يأمن هذا الاحترام وفقا لتعدد المعايير المرتبطة بثقافة الإدراك والاحتياط للخارج، وثقافة المسامحة والتعددية في الداخل، ومن ثم تتحدد شروط وكيفيات وسمات الدولة والمجتمع المدني الذي يؤسس لفلسفة خلاصية كونية عالمية يميزها الدين والثقافة والمصير المشترك اتجاه الكونيات الأخرى.


کد مطلب: 1233

آدرس مطلب :
https://www.ayandehroshan.ir/article/1233/

آینده روشن
  https://www.ayandehroshan.ir