المهدي المنتظر والصراع الحضاري
الدكتور أحمد راسم النفيس
في النصف الثاني من تسعينات القرن الماضي برز مصطلح صراع الحضارات مشيرا للاشتباك القائم بين (الحضارات) المتنوعة من خلال خطوط للتقسيم ومن ضمنها قطعا (الحضارة الإسلامية).
لا شك أن أحد أبرز إشكاليات الحديث عن (الحضارة) سواء تعلق الأمر بصراع دائر أو بحوار محتمل هو تعريف وتحديد معنى الكلمة وهل هي فعلا حضارة؟!، وإذا قبلنا أنها حضارة فهل يمكن نسبة تلك الحضارة لأحد الأديان؟!.
التعريف لا بد أن يكون في البدء محايدا قبل وصفه أو تخصيصه في مرحلة تالية كأن يقال هذه (سيارة) ثم يقال بعد ذلك أنها ألمانية أو أمريكية الصنع.
كي يقال: حضارة إسلامية او مسيحية أو كونفوشيوسية فالأمر يحتاج منا أولا للقبول بتعريفها كحضارة وثانيا بنسبتها لهذا الدين أو لتلك الثقافة وهو سؤال لا يقتصر على ما يراه البعض حضارة إسلامية حيث هناك الآن في الساحة عدة تيارات كلهم يدعي الانتماء للإسلام بالحق أو بالباطل، والأمر ذاته ينطبق على ما يوصف بالحضارة المسيحية حيث هنالك تياران أساسيان هما المسيحية الشرقية والمسيحية الغربية، حيث لا يمكن لأي باحث أن يسلم أن الغرب هو الممثل الحقيقي (لحضارة مسيحية).
لا نرغب في الدخول في متاهة تعريف الحضارة ولا بأس أن نمر على (عالم التعريفات) مرورا سريعا حيث يقول بروس مازليش في كتابه عن (تعريف الضحارة):
قبل استخدام الإسم المجرد (حضارة) بذل اليونانيون والرومان وأوربيو العصور الوسطى جهدا لتمييز أنفسهم عن الهمجيين (barabarians) بصفات تشير إلى الكياسة (civility) وإلى المراعاة الأدبية (cultivation). 22
لم يظهر مفهوم الحضارة مقابل كون الفرد متحضرا أو همجيا إلا أواخر القرن الثامن عشر. 23.
في عام 1743 تحدث ميرابو عن الحضارة باعتبارها (مصطلحا قانونيا) يشير إلى مجتمع ما حيث يحل المجتمع المدني محل المجتمع العسكري، وفي غضون عقد أو يزيد اكتسح معنى الحضارة أوروبا وأصبح مألوفا في الفكر التنويري، هذا التفكير الذي أسقط الدين بشكل متزايد ليصبح معلمنا (مؤلها للعقل) كما شكل جزءا من فكرة التقدم. 24
لماذا انتظر مفهوم الحضارة المجسد حتى عام 1756 ليظهر؟.
تجلت جذور المفهوم مع بدء التوسع الأوروبي في القرن الخامس عشر واللقاء مع بدائيي العالم الجديد وشعوب جزر المحيط الهادي مما أدى لطرح سؤال: كيف نشأ الإنسان المتحضر ومن ثم تعريف الحضارة التي تحدد المرحلة الأخيرة من تطور البشر من الهمجية والتوحش الأصليين.
عامل آخر في تطور مفهوم الحضارة وهو (التهديد التركي) وهو عام 1435 عندما سقطت القسطنطينية بيد الأتراك العثمانيين. 25
ويرى ستيفان غيغر في كتابه (أصول اللطف) أن ظهور الأخلاق سبق عصر النهضة وحدث في الواقع بين العامين 939 و1210 ميلادية كما حدث نتيجة التعليم الذي كان ضروريا بالنسبة لمواقع الدولة الإدارية والكنسية، وضمن هذا التدريب وجد المفكرون والأدباء والفنانون طريقة لكبح عنف الحكام المحاربين، ولخص غيغر نفسه ذلك قائلا: عندما يُعلِم مجتمع ما أفراده جيدا لدرجة تكون كل المجموعات فيه قادرة على التنازل عن العنف، آنذاك يمكن الحديث عن الحضارة وليس فقط عن المجتمع. 27.
يرتبط مفهوم الحضارة أيضا بشكل متأصل بمفهوم الحداثة وما يستلزمه هذا المصطلح وأن النقاش الذي نشأ وقتها بخصوص الثقافة والحضارة كان في جزء كبير منه نقاشا حول مزايا الحداثة وهو ما شكل عودة إلى المعركة القديمة بين القدامى والمحدثين.
يقول كانط: عندما تبلغ ثقافتنا درجة عالية من الفن والعلوم فإننا نتحضر لدرجة نكون فيها مثقلين بكل أنواع اللياقة الاجتماعية والعفة. وأن فكرة الفضيلة تعد جزءا من الثقافة. 29
أما صامويل هنتجتون فيعرف الحضارة في كتاب (صراع الحضارات) قائلا: الحضارة هي الكيان الثقافي الأكثر اتساعا وتعرف بعناصر موضوعية مشتركة مثل اللغة والدين والعادات والمؤسسات والتماثل الذاتي بين الناس وتمثل الحضارة الأنا الكبرى التي نشعر داخلها وكأننا متميزين ثقافيا عن كل من يمثل الآخر.
التعريف الأحدث وهو الأفضل من وجهة نظر بروس مازليتش جاء من دارس إيراني يعتقد أن الحضارات الكبرى تحتوي على قسمين منفصلين الأول يتمثل في رؤية عالمية واضحة يمكن أن تكون عبارة عن مجموعة من الأنظمة الثقافية أو الأيديولوجية أو دين من الأديان في أغلب الأحوال، والقسم الثاني فيمثل نظاما سياسيا وعسكريا واقتصاديا متناسقا عادة يجسد باعتباره أمبراطورية أو نظاما تاريخيا وأدعو حضارة بتلك الصلة بين رؤية عالمية ونظام تاريخي. 32.
أما من وجهة نظرنا فالحضارة مُنْتَج إنساني أي لا بد له من صانع بشري وهي كيان مركب من عدة عناصر أهمها نظام سياسي يسعى لهذا التأسيس، ومكلف حصريا بإعداد وتوفير المواد الأولية اللازمة لتحقيق هذا الهدف وعلى رأسها العقول البشرية القادرة على التعامل مع العلوم بشتى صنوفها وتسخيرها لخدمة الأهداف الأخلاقية والنبيلة، لا من أجل تعميم الشر والموت والدمار أو لاستعباد الآخرين ونهب ثرواتهم، ولا يفوتنا عنصر المال والثروة الذي يمكن من دمج هذه العناصر وتحقيق التفاعل المطلوب بينها تماما كما يستخدم التسخين لإنجاز تفاعل كيماوي معين يقدم للصانع المنتج المطلوب، وهناك العنصر الأخلاقي الذي يمنح الحضارة صفة الحضارة ويخرجها من إطار الجاهلية الهمجية، كما أن امتلاك القوة بشتى صنوفها يعد عنصرا أساسيا يمنحها القوة والمنعة في مواجهة أعداء الداخل والخارج على حد سواء.
أخيرا فإن الحضارة لا تستحق هذا الوصف إلا إذا تميزت بالجمال والكمال سواء تجلى هذا في فنون ترقى بالنفس الإنسانية أو في تنظيم تكاملي للمجتمع في نواحيه المختلفة بعيدا عن القبح والقذارة التي هي الآن جزء من المشهد العشوائي الذي يميز الكثير من المجتمعات المسماة بالإسلامية.
وحسب علي شريعتي في كتاب (العودة إلى الذات)
الحضارة هي مرحلة سامية من النضج الثقافي والمعنوي في المجتمع وتربية الروح الفردية الإنسانية وتهذيبها والتسامي بها ومن أجل تحويل نصف بدائي إلى متحضر فهذا يحتاج إلى أيديولوجية وخطط ومشروعات وعمل وتضحية وتحمل وألم وصبر ورياضة وتغيير في الأصول والمبادئ الاجتماعية وثورة فكرية وعقائدية وتغيير للقيم والمبادئ والوصول إلى رؤية كونية منفتحة أو بكلمة واحدة: ثورة أيديولوجية. ص 186.
الحضارة لا توجد في الاستهلاك والمظهر والكماليات بل توجد في الرؤية والفكر وعمق الإحساس والعلاقات الإنسانية والأخلاقية ومنظومة القيم وقوة الثقافة وغناها والدين والفن والاستعداد للخلق والتحليل والاختبار والقياس.
لا تحتاج العصرية إلا إلى التقليد ولكن الحضارة على عكسها تماما فهي نوع من الفوران الداخلي والتحرر من التقليد والوصول إلى حدود الخلاقية والتمييز المستقل.
التحضر ثورة في الفكر ووعي وتمييز ورؤية كونية وتحليل للحياة والمجتمع والدنيا وتقييمها وتتضح من السلوك الاجتماعي والتكتل السياسي والحياة الفردية في المجتمع. ص 187.
الحضارة تعني حراثة الأرض وتسميدها ومدها بالمياه ثم بذر البذور ورعايتها وتطعيم النبات ومقاومة الآفات ثم يأتي النمو وهو ما لا يمكن له أن يحدث بين يوم وليلة بل يحتاج إلى كدح وعمل متواصل وصبر وإرادة وذكاء واستعداد أما الحضارة الاستهلاكية فهي ليست حضارة بل سوق لا أكثر.
إن ما يجعل الأرض في رأيي صالحة للإنبات هو الأيديولوجية، رؤية كونية متحركة وأهداف مشتركة أو ما يعبر عنه بكلمة واحدة بالإيمان وهو ما يوجد حركة وقدر ووسائل ووحدة في المجتمع ثقافة الهند الروحية العميقة والمسيحية والحضارة الإسلامية والحضارة الأوربية الحديثة كل واحدة منها كانت وليدة حركة فكرية وقومية ودينية. 189
لقد ظن البعض أن الفلسفة والثقافة والعلوم والتقنية هي التي تصنع الحضارة وهذه غفلة ذهنية عجيبة لأنهم وضعوا المعلول مكان العلة وكل هذه الأمور هي النتيجة الحتمية للحضارة الحقيقية. ص 190.
من وجهة نظرنا ليست كل الحضارات سواء خاصة من ناحية القيمة ولا يمكن أن تكون سواء فالعبرة تتعلق بمنظومة القيم العملية وقواعد السلوك التي تتبناها هذه الحضارة أو تلك خاصة في علاقاتها الدولية والداخلية وليست تلك المدونة في الدساتير والقوانين.
ما أروع تلك المبادئ المدونة في ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان وما أبعد البون بين هذه الوثائق وعالم الواقع وحسبنا ما تعرض له الشعب الفلسطيني من مظالم وما صدر (لصالحه) من قرارات لم تجد طريقها يوما للتنفيذ.
الحضارة الإسلامية
قلنا أن الحضارة هي منتج إنساني مركب وليس وصفة جاهزة يمكن تطبيقها في أرض الواقع بمجرد قراءة (الكتالوج)، والآن يمكننا أن نضيف إلى ما سبق أن المسلمين في الغالب الأعم لم يكن يعنيهم لا المصطلح ولا المضمون، فهم يلهثون خلف قوى الأمر الواقع التي تفرض إرادتها عليهم أولا ثم يحاولون بعد ذلك أن يفلسفوا وينظروا ويقعدوا لهذا الواقع، تارة باسم الفقه والآن باسم الحضارة!!.
كي تستحق حضارة ما وصفها بالإسلامية فلا بد أن يكون المحتوى الفكري والأخلاقي والقيمي مستقى من الإسلام.
أي إسلام؟!.
إسلام أهل البيت المبني على قاعدة التلازم بين القرآن الكريم والعترة النبوية الطاهرة؟!.
أم ذلك الإسلام الذي قام الأمويون بصياغته أولا في أرض الواقع من خلال أفعالهم التسلطية القبيحة وما حوته من أفعال وأفكار دموية يئن منها المسلمون قبل غيرهم؟!.
الأمر ذاته ينطبق على أتباع الديانة المسيحية الذين خرجوا عن مسارها الأصلي ولم يبق لديهم إلا أقل القليل مما يمكن نسبته للسيد المسيح عليه السلام.
في العالم الإسلامي لم يستفق المفكرون من هيمنة الأمر الواقع إلا مؤخرا وبدأوا في محاولة استلحاق تصوراتهم بمفاهيم الحضارة بدلا من الاكتفاء بالسير وراء دولة السيف والغلبة ومن هؤلاء سيد قطب الذي قال ما نصه في كتابه (معالم في الطريق):
الإسلام لا يعرف إلا نوعين اثنين من المجتمعات مجتمع إسلامي ومجتمع جاهلي.. والمجتمع الإسلامي هو المجتمع الذي يطبق فيه الإسلام عقيدة وعبادة وشريعة ونظاما وخلقا وسلوكا، أما المجتمع الجاهلي فهو المجتمع الذي لا يطبق فيه الإسلام ولا تحكمه عقيدته وتصوراته وقيمه وموازينه ونظامه وشرائعه.
والمجتمع الجاهلي قد يتمثل في صور شتى كلها جاهلية
قد يتمثل في صورة مجتمع ينكر وجود الله تعالى ويفسر التاريخ تفسيرا ماديا جدليا ويطبق ما يسميه بالاشتراكية العلمية نظاما وقد يتمثل في مجتمع لا ينكر وجود الله تعالى ولكن يجعل له ملكوت السماوات ويعزله عن ملكوت الأرض فلا يطبق شريعته في نظام الحياة ويبيح للناس أن يعبدوا الله في البيع والكنائس والمساجد ولكنه يحرم عليهم أن يطالبوا بتحكيم شريعة الله في حياتهم..
والمجتمع الإسلامي بصفته تلك هو وحده المجتمع المتحضر والمجتمعات الجاهلية بكل صورها مجتمعات متخلفة ولا بد من إيضاح هذه الحقيقة الكبيرة.
كنت أعلنت مرة عن كتاب لي تحت الطبع بعنوان "نحو مجتمع إسلامي متحضر" ثم عدت في الإعلان التالي وحذفت كلمة متحضر مكتفيا بأن يكون عنوان البحث "نحو مجتمع إسلامي". معالم في الطريق 116-117
كلمة متحضر هي "لغو"!!!
أما عن سبب اكتفاء سيد قطب بكلمة إسلامي وإسقاطه لكلمة متحضر فيكشف عنه بقوله (عندما فكرت في الكتابة عن هذا الموضوع كانت المشكلة عندي هي "تعريف الحضارة" ولم أكن قد تخلصت بعد من رواسب الثقافة الأجنبية والغربية التي كانت تغبش تصوري وتطمسه.. ثم انجلت الصورة لأرى أن المجتمع المسلم هو المجتمع المتحضر وأن كلمة المتحضر هي لغو لا يضيف شيئا جديدا وعلى العكس فإن هذه الكلمة تنقل إلى حس القارئ تلك الظلال الأجنبية الغربية التي كانت تغبش تصوري وتحرمني الرؤية الواضحة الأصيلة!! والاختلاف إذا هو على تعريف الحضارة) ص118.
معضلات سيد قطب
تبدو المعضلات الفكرية التي يجابهها الإسلاميون ومن ضمنهم قطعا سيد قطب في التعامل مع الفكر والفقه والواقع بلا حل نظرا لاعتمادهم التبسيط المخل في نظرتهم إلى الدين وهي معضلة ناجمة عن رؤيتهم لتاريخ المسلمين.
لن نستفيض هنا في مناقشة سيد قطب، ويكفي أن يعتمد الرجل نظرية (الجيل القرآني الفريد) التي هي امتداد للرؤية القائلة ب(يوتوبيا) ما بعد العصر النبوي على خلاف الواقع لندرك أن ثقافته ومن ثم فكره لا تعدو كونها ثقافة عناوين تخالف كل الحقائق والمضامين.
مضامين الحضارة في القرآن الكريم
بديهي أن كلمة حضارة لم ترد في القرآن الكريم، إلا أن الثابت لدينا أن المفاهيم السالبة للحضارة وتلك المثبتة لها متوافرة في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
نقصد بالمفاهيم السالبة تلك الآيات التي تحدثت عن امتلاك البشر منظومة أو أكثر من تلك العناصر إلا أن خللا أخلاقيا اعترى هذا المجتمع قاده نحو الهلاك بسبب ارتكاب إحدى الخطايا التي تجر الدمار.
يقول تعالى:
(فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ). الحج (45).
(كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) الشعراء 123-135.
(لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ *فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ * وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آَمِنِينَ * فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) سبأ 15-18.
(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ) غافر 21.
الآيات السابقة تشير إلى حضارات أتيح لها فرصة الوجود في هذا الكون وكان لأصحابها قدرات غير عادية في البناء مثل عاد قوم هود الذين كانوا ينحتون بيوتهم على ارتفاعات شاهقة في قمم الجبال ويوصلون إليها المياه (وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون) أو مثل أهل اليمن (لقد كان لسبأ في مسكنهم آية)، الذين أقاموا سد مأرب لحجز مياه المطر وري البساتين والجنان التي كانت تثمر لهم أشهى الزروع والثمار ثم تلاشى كل هذا بسبب إعراضهم عن أمر الله وطاعته ومبارزته بالذنوب والظلم والمعاصي.
كما يشير القرآن الكريم لحضارات أخرى امتلكت عناصر القوة بشكل يفوق من جاءوا بعدهم ولكن أخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من عاصم ولا واق.
امتلكت هذه الحضارات عناصر القوة والقدرة على تسخير العلم والمعرفة والسيطرة على الطبيعة وتوفير الرخاء كقوم عاد الذين بنوا ناطحات السحاب وأمدوها بما تحتاجه من وسائل الرفاه وهو ليس بالأمر الجديد في التاريخ الإنساني إلا أن أهم ما افتقدته تلك الحضارات التي غصت الأرض بآثارها الشامخة كان الارتباط والالتزام بالقيم الإلهية وعلى رأسها بالقطع قيمة العدل.
من البديهي أن إثبات وجود هذه الحضارات لا يتوقف على ذكرها في القرآن فهاهي الآثار الفرعونية موجودة في الكثير من مناطق مصر وهاهم برابرة داعش الوهابيين يدمرون آثار العراق الآشورية، أما ما ورد في القرآن فيفسر لنا سبب انهيارها وزوالها من الوجود كي تتجنب البشرية الوقوع في ذات الأخطاء.
وإذا كان بعض المفكرين الذين أشرنا إليهم سابقا يضعون مفهوم الحضارة مقابل الهمجية فنحن نعتقد أن الصواب هو ما قاله القرآن الكريم من وضعها مقابل مفهوم الجاهلية.
(ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ) الأنفال 154.
(أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) المائدة 50.
(وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) الأحزاب 33.
(إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) الأحزاب 26.
ومن الواضح أن المقصود بمصطلح الجاهلية هي تلك الأوضاع التي تختلط فيها التقاليد والأعراف البالية التي لا تستند لقانون أخلاقي سماوي مع العصبيات القبلية الجاهلية التي تعلي شأن العرق أو الطائفة على قواعد السلوك الاجتماعي النابعة من رسالات السماء السامية.
الجاهلية هي المقابل للحضارة وهي أوسع من مجرد الجهل وانعدام المعرفة فالجهل يمكن أن يكون حالة جزئية أما الجاهلية فهي منظومة (متكاملة) من الفساد والحكم يما تهوى الأنفس وغيرها من الأوضاع الشاذة التي عاشتها المجتمعات العربية وغير العربية والتي تناضل من أجل الاستمرار والبقاء حتى الآن.
معارك التدمير الحضاري
المتابع للهجمة الضارية التي تتعرض لها المنطقة الإسلامية والتي تشكل التنظيمات الوهابية رأس حربتها يلاحظ ما يلي.
أن هذه الجماعات التدميرية تركز هجومها على الإرث الحضاري للمنطقة والذي يشكل الجزء الثابت من هذا التاريخ الموجود على الأرض.
الملاحظة التالية: أن هذه الجماعات التدميرية تكمل ما بدأه الآباء المؤسسون لهذا النهج بدءا من عمر ابن الخطاب الذي أمر بإخفاء قبر النبي دانيال والتعمية على ما وجد فيه من مخطوطات والرواية لابن كثير في تفسير قوله تعالى: {فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} أي: سدوا عليهم باب كهفهم، وذروهم على حالهم {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} والظاهر أن الذين قالوا ذلك هم أصحاب الكلمة والنفوذ. ولكن هل هم محمودون أم لا؟ فيه نظر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد" يحذر ما فعلوا وقد روينا عن عمر بن الخطاب، أنه لما وجد قبر دانيال في زمانه بالعراق أمر أن يخفى عن الناس وأن تدفن تلك الرقعة التي وجدوها عنده، فيها شيء من الملاحم وغيرها.
استمر هذا النهج التدميري الذي سنه الخليفة الثاني وتجلى بعد ذلك في أوضح صوره في التدمير الشامل الذي قام به يوسف بن أيوب الملقب بصلاح الدين الذي أنهى بصورة كاملة وجود العديد من المكتبات في مصر ومن أهمها مكتبة القصر الفاطمي التي حوت ما يربو على مليوني كتاب فضلا عن تدميره لأهرامات الجيزة حيث أزال أكثر من ثمانية عشر هرما واستخدم أحجارها في بناء القلعة المسماة باسمه حتى الآن ناهيك عن قيام الأيوبيين بتسوية أعظم مدينة في العالم كانت تقوم بإنتاج النسيج في الشمال الشرقي لمصر هي مدينة تنيس التي هي الآن مجرد أكوام تقع على الحافة الشمالية الشرقية لبحيرة المنزلة (تنيس) سابقا ثم جاءت الجماعات الطالبانية لتكمل ما بدأه الآباء الهمج البرابرة المؤسسون.
المهدي المنتظر والنهوض الحضاري
من البديهي أن تحقيق العدل الإلهي يرتبط ارتباطا وثيقا بنهضة حضارية وعلمية سابقة ولاحقة على هذا الظهور المبارك وأن العدل لا يمكن أن يتحقق إلا في مجتمعات الوفرة التي تستثمر الثروات الطبيعية المتوفرة في البر والبحر والتي عجز الناس عن استثمارها بسبب الفساد والاستئثار الذي عم البلاد والعباد (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) الروم (41).
مقابل هذا الفساد والإفساد البشري الذي أنتج فقرا وتخلفا وظلما واستئثارا وإفقارا للمستضعفين سواء كانوا راضين قانعين بالذل أو مغلوبين على أمرهم لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا) النساء 98، فإن إعادة الأمور لنصابها ورد الولاية لأصحابها وأهلها، أهل البيت الذين اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا كفيل بأن يحيي الله الأرض بعد موتها ويعيد إليها بهاءها ونورها الذي غيب عنها طيلة القرون الماضية.
(اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) الحديد 17.
روي في كمال الدين عن الإمام الحسين عليه السلام: منا إثنا عشر مهديا، أولهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وآخرهم التاسع من ولدي، وهو الامام القائم بالحق، يحيي الله به الارض بعد موتها ويظهر به دين الحق على الدين كله ولو كره المشركون له غيبة يرتد فيها أقوام ويثبت فيها على الدين آخرون، فيؤذون ويقال لهم: متى هذا الوعد إن كنتم صادقين، أما إن الصابر في غيبته على الاذى والتكذيب بمنزلة المجاهد بالسيف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله.
ومن البديهي أن مفهوم الحضارة يساوي مفهوم إحياء الأرض بعد موتها الذي هو مفهوم قرآني تمتزج فيه الإرادة والقدرة الإلهية بسعي الإنسان وجهده الدؤوب لتحقيق الاستفادة القصوى من خيرات الأرض لصالح الإنسانية ولتحقيق العدالة التي هي الركن الركين لتحقيق الأمن والسلام في ربوع الدنيا.
روي في نهج البلاغة وتحف العقول عن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام:
ألا إن العلم الذي هبط به آدم وجميع ما فضلت به الانبياء عليهم السلام في عترة نبيكم، فأين يتاه بكم وأين تذهبون. يا معشر من نجا من أصحاب السفينة هذا مثلها فيكم، كما نجا في هاتيك من نجا فكذلك من ينجو في هذه منكم من ينجو، ويل لمن تخلف عنهم، إنهم لكم كالكهف لاصحاب الكهف، سموهم بأحسن أسمائهم، وبما سموا به في القرآن، هذا عذب فرات سائغ شرابه اشربوا وهذا ملح أجاج فاحذروا، إنهم باب حطة فادخلوا، ألا إن الابرار من عترتي وأطائب أرومتي أعلمالناس صغارا وأعلمهم وأحلمهم كبارا، من علم الله علمنا، ومن قول صادق سمعنا، فإن تتبعوا آثارنا تهتدوا ببصائرنا وإن تدبروا عنا يهلككم الله بأيدينا أو بما شاء، معنا راية الحق من تبعها لحق ومن تخلف عنها محق، وبنا ينير الله الزمان الكلف، وبنا يدرك الله ترة كل مؤمن، وبنا يفك الله ربقة الذل عن أعناقكم، وبنا يختم الله لا بكم).
وفيه (.. بنا فتح الله عزوجل وبنا يختم الله وبنا يمحو الله ما يشاء وبنا يدفع الله الزمان الكلب وبنا ينزل الغيث لا يغرنكم بالله الغرور، لو قد قام قائمنا لانزلت السماء قطرها ولاخرجت الارض نباتها وذهبت الشحناء من قلوب العباد، واصطلحت السباع والبهائم، حتى تمشي المرأة بين العراق والشام لا تضع قدميها إلا على نبات، وعلى رأسها زنبيلها لا يهيجها سبع ولا تخافه).
الأمة الإسلامية ومعارك التدمير الحضاري
الآن تدور على ساحتنا الإسلامية عدة معارك ربما كان عنوانها الأبرز هو (معارك التدمير الحضاري) وهي خطط ربما استلهمها مخططوها من تلك الحرب الكبرى التي شنها صلاح الدين الأيوبي بالتحالف مع السلاجقة القدامى على مركز الحضارة الإسلامي القائم في مصر قبل قرابة الألف عام.
أدرك الغرب المعادي أن سلاحه الأمضى هو تأجيج نار العداوة المذهبية ونيران الحقد الطائفي وأن استخدام هذا السلاح يمكنه من حشد آلاف من المقاتلين الذين لا هم لهم إلا تدمير كل ما تطاله أيديهم تحت شعار الانتقام للطائفة بغض النظر عن الدمار الذي سيلحقه هؤلاء بمجموع الأمة وثرواتها وتراثها الحضاري.
نرى بوضوح أصابع الموساد والمخابرات المركزية الأمريكية تخطط وتدير تلك المعركة القائمة على استنهاض غرائز الحقد والانتقام والتدمير لتبقى أمتنا داخل هذا المستنقع التدميري عاجزة عن مغادرته، مستنقع التدمير الحضاري من أجل القضاء على أي إمكانية لإعادة البناء الحضاري المرتكز على إعمال العقل والتدبر وهي كارثة ليس لها من دون الله كاشفة.