مكانة عقيدة المهدوية في فكر المفكرين المسلمين
في عصر الحداثة
الدكتور رضي موسوي الجيلاني
الخلاصة من جملة التحديات التي ظهرت بعد عصر النهضة وتحقق الحداثة، قضية المواجهة بين الدين والحداثة وفي خضّم ذلك موقع المفكرين المسلمين والمجتمعات الإسلامية في الإجابة على الأسئلة المستحدثة والجديدة وردات أفعالهم الروحية والإجتماعية في مقابل هذه الأسئلة؛ موقعٌ ووضعٌ فرضته الحداثة أمام المسلمين على كافة الصعد: الدولة، السياسة، علم الإنسان (الانتربولوجيا)، علم الإجتماع، علم المعرفة، العلاقات والإرتباطات الفردية والإجتماعية، التنمية والنمو وأمثال ذلك. في هذه المواجهة والأسئلة المنبثقة عنها، سلك المسلمون سبلاً، وأعطوا إجاباتٍ وصدر عنهم ردات فعلٍ متعددة، حيث حضرت العناصر الثقافية للمهدوية وللمفاهيم المتعلقة بالموعود بصفتها عاملاً أساسياً. بناءً عليه، إنّ من جملة ما يهدف إليه هذا المقال تحليل الإتجاهات التي من خلالها تحليل الإتجاهات التي استخدمت المهدوية بصفتها سبيلاً أو رد فعلٍ فرديٍّ واجتماعيٍّ مقابل الحداثة، ونقدها وتبيين أضرارها إذ أنّها استخدمت المهدوية بصورة غير صحيحة، وأيضاً تبيين الإتجاه المناسب للمسلمين في فهم المهدوية كفلسفة التاريخ.
المقدمة
أُطلق على كافة الدول الغربية بعد عصر النهضة اسم "الغرب"، رغم تنوع الأفكار والمدارس الفكرية فيها. ومما جعل هذه الدول تتمتع ببنيةٍ وهويةٍ مشتركة، اشتراكها في عناصر عدة مثل النمو والتنمية العلمية، التكنولوجيا، الصناعة، العلوم التجربية، الفلسفة و بقية المجالات العلمية، و هذا ما كان يُطلق عليه أحياناً ثقافة الحداثة. وتمايزت الدول الغربية بهذه الصفة أي الحداثة عن الدول الشرقية.
اليوم، يعتبر مصطلح "الغرب" بالنسبة للشرقيين تلك المعرفة الكلية للدول التي تتمتع بهوية واحدة وموّحدة كنتيجةٍ لتأثيرات وآثار عصر النهضة، بصرف النظر عن دينهم المشترك أي المسيحية. كذلك يشير هذا المصطلح وبصرف النظر عن الدين المسيحي، الى الوجوه الفكرية والثقافية والسياسية المشتركة لهذه الدولة والتي تشمل إضافةً الى الدول الأوروبية، الدول الأمريكية واستراليا (اوقيانيا). في الواقع، لقد تبدّل مفهوم "
العالم المسيحي" الذي كان يشير في عصر القرون الوسطى الى البلاد الأوروبية، الى مفهوم "العالم الغربي"، وسلّم "الدين" بصفته معياراً ثقافياً مهماً مكانَه الى مفهوم الحداثة، بحيث أصبح يتم التعبير عن الدول الأوروبية ومن ثمّ الدول الأمريكية بالحضارة الغربية. كما تغيّر استعمال هذه الكلمة في مفهومٍ جغرافي وأصبحت تُستعمل بصفتها مفهوماً ثقافياً تتمتع بعناصرٍ خاصةٍ:
"لقد أدّى الإصلاح الديني البروتستانتي وظهور الأمبراطورية العثمانية الى أن يتحول العالم المسيحي الى "الغرب". فكان يعتبر مفهوم "الغرب" في القرن السابع عشر والثامن عشر بشكلٍ أساسي عنواناً جغرافياً ومترادفاً لـ"اوروبا". ولإستخدام مصطلح "اوروبا" تاريخ طويل يرجع الى اليونانيين والرومانيين وهو أكثر رواجاً... . وأصبحت الحضارة الغربية معياراً لقياس الحضارات والثقافات الشرقية بها. وهكذا قام مفهوم "الغرب" في مواجهة مفهوم "الشرق".
بعد تشكّل عصر النهضة وعناصر الحداثة في العالم الغربي، أصبحت العديد من الدول الإسلامية في مواجهة تحدٍ يتلخص في أنّه ما العلاقة بين الحضارة والتراث الديني مع الحداثة وما النسبة بينهما؟ ما هو النموذج الذي يقدّمه الدين في الإجابة على مختلف الأسئلة أو الأوضاع الإجتماعية والنفسية التي خلقها العصر الجديد وهل يمكن إيجاد التوافق والتلاؤم بين رؤيتين مختلفتين في نظرتيهما المعرفية بالنسبة للعالم والإنسان وبين عالمين فكريين متفاوتين؟
ويأتي عصر أصالة الإنسان أو عصر الحداثة بعد عصري أصالة العالم وأصالة الله في تاريخ الحضارة الغربية، فعلى سبيل المثال تشكّل هذا العصر بالتزامن مع النصف الثاني من عصر الصفوية في ايران، وبدأت عناصر هذا الإتجاه بالتوسع تدريجياً في عصر القاجارية ومن ثم البهلوية، لتسيطر على ثقافة البلاد الإسلامية مثل ايران، وبدأ بالتالي يُطرح بكل جدية السؤال حول العلاقة بين الدين والحداثة أو بتعبيرٍ آخر العلاقة بين التراث والحداثة؟ هل يستطيع الدين الإجابة على أسئلة العصر الجديد والتي تتمحور حول العالم، الوجود، والإنسان والمنبثقة عن عصر الحداثة، وهل يقدّم الدين طرحاً ونموذجاً مناسباً لإنسان الحضارة الشرقية في مقابل عناصر العصر الجديد مثل أصالة الفرد، أصالة الإنسان، الإيمان بالعلم (العلمية)، أصالة العقل والدنيوية وأمثال ذلك، أم لا؟
وقد انقسم العلماء والمفكرون الإسلاميون في معرض إجابتهم على هذه الأسئلة بين إتجاهات مختلفة، وسعى كلُّ واحدٍ منهم تقديم نموذجٍ في سبيل الإجابة على الأسئلة الأساسية لهذا العصر الحداثوي. ويمكن جعل كافة ردات الفعل والسُبل التي صدرت عن هذه المجموعات من المفكرين في العالم الإسلامي ضمن ستة نظرياتٍ حيث يتكئ بعض هذه النماذج على بحث المهدوية من وجهة نظر المفكرين الإسلاميين. ولا يخفى أنّه يمكن أن يكون بين نظريةٍ وأخرى من هذه النظريات الست أوجه اشتراكٍ، ولكن دائماً كان يؤكد أحد هؤلاء المفكرين الإسلاميين أو التيارات الفكرية في العالم الإسلامي على واحدة من هذه النظريات ويُصرّ عليها.
وهذه النظريات هي كالتالي:
1. الإنفعال والتأثّر بالحداثة؛
2. الإصلاح الديني أو انطباق الدين مع الحداثة؛
3. الأصولية/ السلفية؛
4. التراثية؛
5. المهدوية الأداتية؛
6. المهدوية بمثابة فلسفة التاريخ.
1. الإنفعال والتأثر بالحداثة
بعد تحقق عصر النهضة وعناصر الحداثة، اعتقد عددوا من الملوك، المتعلمين، المفكرين وعامة الشعب بشكلٍ لاشعوري بصحة سيطرة الحداثة على الحضارة الإسلامية، وبدأوا يتحدثون عن ضرورة إتّباع طرق وأساليب الحداثة في المجالات المتعددة للحياة، العلم والمجتمع. لقد كان رد فعل هؤلاء الأشخاص انفعالية، ولو أنّهم لم يظهروا ذلك على ألسنتهم، فعملوا على إدخال الكثير من عناصر الحضارة الغربية الى الحضارة الإسلامية. لكن الى جانب هذا التلقي اللاواعي، اعتقد أيضاً عدد من مثقفي ومتعلمي البلاد الإسلامية أنّ الحضارة الغربية قد مرّت في تحوّلٍ وأنّه لا بد من أن تشارك البلاد الشرقية في ثمرات وإنجازات هذا التحول؛ كما وأكّدوا بكل وعيٍّ وإرادةٍ ـ وليس بشكلٍ لاشعوري ـ على أنّه إذا أراد الشرقيون تحقيق النمو والتنمية والنجاح، فلا بد لهم من إتّباع الحضارة الغربية التي هي نتيجة عصر النهضة والحداثة. وعلى هذا الصعيد، مضافاً الى تأييد المفكرين الشرقيين لهذا الأمر، أكّد علماء الغرب أيضاً على ضرورة اتّباع الشرقيين للغرب وقاموا أيضاً بتشجعيهم على ذلك.
فنحن نرى أنّه من جهةٍ رضخ بعض المثقفين الداخليين مثل تقي زاده وكسروي لمسألة اتباع الغرب في كل الأمور من الرأس حتى أخمص القدمين، ومن جهةٍ أخرى اعتقد بعض علماء الغرب مثل فيليب حتّي أنّ الإسلام لا يستطيع تقديم أيّ مساعدة للبشرية وأنّه لا يتوافق والعالم الحديث، وفي مقابل ذلك يعتبر أن العلمانية التي هي وليدة الحداثة مُنجي المسلمين ؛ أو القس كنث كراغ الذي يرى أنّ مسيحيته قد جدّدت نفسها في مقابل العالم الحديث وأنّه في حال لم يسلك المسلمين ذات الطريق، فسوف يدخلون الى مجاهل النسيان، لذا فالحلّ الوحيد لتقدّم المسلمين هو في اتّباع الإسلام طريق المسيحية ويجب على كافة الحضارات طي نفس المسير الذي طواه الغرب لكي تصل الى رمز النجاح والفلاح.
2. أصالة الإصلاح الديني وانطباق الدين والحداثة
يعتبر الإصلاح الديني الإتجاه الثاني القائم في بلاد الشرق وبالخصوص في الثقافة الإسلامية والذي طُرح من قِبل عدةٍ من المفكرين والعلماء الدينيين. ويحمل هؤلاء حساً وقلقاً دينياً أكثر من مناصري الإتجاه الأول، وبعضهم كان يحاول بصفته مفكراً اسلامياً تيين آرائه وفكره في سبيل التعاطف مع دينه ومساعدته، وكان يريد تقوية الدين مقابل المشاكل الحاصلة جرّاء العالم الحديث. وهذا الأمر هو نقطة التمايز بين الإتجاه الأول والإتجاه الثاني. ويمكننا الإشارة الى بعضٍ من هؤلاء المثقفين أمثال السيد جمال الدين أسد آبادي، إقبال لاهوري، السير السيد احمد خان الهندي، مهدي بازرغان، علي شريعتي، السيد محمود طالقاني... لقد جهد هؤلاء في تفسيرهم للنصوص الدينية والتعاليم الإسلامية الى إيجاد نوعٍ من التلاؤم والإنسجام بين الدين والحداثة . كما وسلك بعضهم في هذا المسير الإتجاه العلمي، و اتخذ البعض الآخر الإتجاه العقلي، بحيث أنّهم كانوا يعتمدون أحياناً في هذا المسير على النظريات والفرضيات العلمية الضعيفة والتي اُعتبرت فيما بعد غير فعاّلة بعد تجربتها وبيان خطئها. في الواقع، إنّ الصفة الأساسية لهذا الإتجاه هو محاولة مناصريه عبر قبول بعض عناصر عالم الحداثة مثل العلمية والعقلانية، تحليل المفاهيم الدينية بشكلٍ وضعي (إثباتي أو بوزيتيفيسم) أو استدلالي فلسفي بهدف إيجاد الإنسجام بينها وبين العلوم التجربية والعقل الفلسفي. لذلك، نراهم على سبيل المثال، عندما يفسّرون مفاهيماً كالجنّ، الشيطان، الروح والكثير من المعجزات والتجارب الخاصة للأنبياء، يتكلمون بطريقةٍ توجب التأويل والتغيير في معاني ظاهر الآيات والروايات. في الحقيقة، لقد دأب تمايل هذا الطيف من العلماء أكثر نحو تنزيل وتأويل المفاهيم المارواء مادية الى مفاهيم مادية بهدف جعلها متوافقة مع العلم والعقل. طبعاً، لم يتوقف هذا الإتجاه في العصر الجديد بين العلماء المسلمين، إذ لم يألوا جهداً في سبيل إيجاد نوعاً من الإنسجام والتلاؤم بين التعاليم الدينية والمفاهيم الحداثوية الجديدة ومن أهم أهداف هذا الطيف الفكري إيجاد تلازمٍ بين العلم والدين، العقل والدين وبين الدين والإنجازات البشرية.
3. الأصولية/ السلفية
اعتبر عددٌ من العلماء والمفكرين الإسلاميين، أنّ رمز الفلاح والنجاح مقابل الحداثة يكمن في الرجوع الى النصوص الدينية ـ الكتاب والسُنّة ـ والتفاسير الأولية للعصر النبوي لها. تميل هذه المجموعة من العلماء في مقابل الإتجاه السابق الى التمسك بظواهر الآيات، كما وتحاول تنزيه الدين عن التفاسير ولا تتحمل تأويل الآيات والقراءات العرفانية والباطنية للتعاليم الدينية. ويميل هؤلاء العلماء نحو الدين وظواهر الآيات والروايات في بحث نسبة الدين والحداثة أو أصالة الظاهر (التمسك بالظاهر) والعقلانية (أصالة العقل)، كذلك لا يوافقون على إمكانية تأويل الآيات بهدف إيجاد التوافق بين الدين والعلوم التجربية أو العقلانية، أو تفسير المفاهيم الدينية بحيث تنسجم مع عناصر الحداثة. في تاريخ الحضارة الإسلامية، تنضوي المجموعات الإسلامية بين أهل السّنّة مثل الإخوان المسلمين، الاشاعرة، ابن تيمية والوهابية، وكذلك الشيخية والإخباريون عند الشيعة تحت لواء هذا الإتجاه الفكري وتشترك كافة هذه المجموعات في تمسكها وجمودها على ظاهر النصوص الدينية وطرد العقل وتتطابق بشكلٍ كامل مع تيار أصالة الإيمان في المسيحية.
انطلاقاً من ذلك، قيل أن النتيجة المنطقية لرفض العقل في المذهب الحنبلي، ظهور فرقة الوهابية وأنّ النتيجة المنطقية لرفض العقل عند الإسماعيلية والشيخية ظهور فرقة البابية والبهائية. في الواقع، إنّ الإتجاه غير العقلاني ومكافحة العقل عند فرقة الشيخية والتمايل الشديد نحو الباطنية والغلو في الائمة، أدّى الى انشعاب فرقة البابية من داخل فرقة الشيخية وشكّلت مكافحة العقل عاملاً وأرضيةً لنمو التيارات الإنحرافية المبتنية على الباطنية وأصالة الإحساس الديني؛ كما خرج تيار الوهابية من داخل الفكر الحنبلي.
وقد استخدم مفهوم الأصولية في الأدبيات السياسية لأول مرة من أجل تبيين أفكار البروتستانت والإنجيليين. وللأسف، يستخدم اليوم اصطلاح الأصولية من قبل الشرقيين أيضاً، في حين أنّه تمّ استخدام هذا الإصطلاح من قِبل الغربيين حول الأصولية المسيحية وبعد ذلك حول أي نهضة أو تيار اسلامي يريد الرجوع الى الشريعة الإسلامية ومعارضة الغرب. واليوم، وجد أيضاً لفظ الاصولية الإسلامية مكانه في الأدبيات السياسية، ويتمّ تلقيه كمفهومٍ يحمل في طياته معنىً سلبياً وسيئاً وأصبح نوعاً من التهم المذمومة، وأحياناً لا يتم الإلتفات الى وجه التمايز والإفتراق بين هذا المفهوم ومفهوم الرجوع الى الأصول (الأصولية الحقة) والسنّة.
كما ولا بد من الإلتفات الى أنّ هناك تمايزٌ بين الأصولية والتراثية، وأنّ هذين الإتجاهين الفكريين موجودان في العالم الإسلامي وأنّهما يتفاوتان في نظرتهما بالنسبة لحلّ مشكلات الدين والحداثة، بحيث يسعى التراثيون دائماً أنّ يفصلوا أنفسهم عن ذلك التيار الفكري المذموم المقدوح فيه في الغرب. ويعتبر الدكتور السيد حسين نصر الأصولية من آثار الحداثة ونوعاً من رد الفعل في مقابل الإفراطية في الحداثة، إذ يقول في هذا الشأن:
" إنّ الكثير من النهضات الموجودة في العالم الإسلامي، إمّا تهدف الى الوصول الى الحداثة، وإمّا تواجه الحداثة. لقد تمّ تعريف المجموعة الثانية بالأصولية. والأصولية نفسها هي الوجه الثاني للحداثة. فنحن لم يكن لدينا أصولية في العصر السلجوقي أو الصفوي. فظاهرة الأصولية هي رد فعل مقابل التجدد والحداثة والمسألة الملفتة للنظر هي أنّ كليهما لديهما أموراً مشتركة مع بعضهما البعض. النكتة الأولى، أنهما لا يوجّهان أيّ نقدٍ للتكنولوجيا والعلم الحديث. فهما يبلعان التكنولوجيا والعلم الحديث كما يبلع الحوت ماء البحر. النكتة الأخرى، أنّ كليهما لا يهتمان ابداً بالفنّ الإسلامي والحضارة الإسلامية التراثية والنكتة الثالثة هي أنّ كليهما يعاديان الجانب المعنوي، الباطني والداخلي للإسلام.
يعتقد التراثيون بالتفسير الحكمي والعرفاني للشريعة ولا يكتفون بالنظرة القشرية والسطحية للنصوص الدينية كالأصوليين. بناءً على ما تقدّم، رغم وفاء كلاّ من الأصوليين والتراثيين لأصالة للمتون الإسلامية المقدسة مثل القرآن والحديث، إلاّ أن التراثيين يتهمون الأصوليين أنّ تفسيرهم للقرآن والحديث تفسيرٌ ايديولوجي وأداتي، وأنّهم يفسّرون الآيات والروايات بما يخدم ميولهم، مقاصدهم وأغراضهم السياسية:
إنّ الوجه المشترك بين التراثيين وبين ما اُصطلح عليه اسم الأصوليين، في أنّ كلاً منهما يقبل القرآن والحديث، كذلك يؤكد كلاً منهما على الشريعة. لكن حتى في ذلك يوجد اختلافاتٍ عميقة. فكما تمّ تبيينه سابقاً، يؤكد التراث على التفاسير الحكمية في فهم معنى الآيات والنصوص المقدسة؛ في حين أنّ الكثير من النهضات الأصولية تتمحور حول آيةٍ قرآنية وتفسّرها طبقاً لأهدافها ونيّاتها وغالباً طبقاً لفهمٍ غريبٍ وغير منسجم مع تفسير القرآن. وفيما يخص الشريعة، يؤكد التراث في مقابل الكثير من مذاهب الأصولية الرائجة، على الإيمان أي العلقة الباطنية بأحكام الشريعة وعلى الجو التراثي والقضاء السهل القائم على نقائص المجتمع الإنساني، وليس القائم على الإجبار والإكراه الخارجي المستقر على أساس الخوف من بعض القوى الإنسانية غير الله.
ويعتقد بعض منتقدي أفكار التراثيين أنّ الإختلاف بين الأصوليين و التراثيين أقل مما يدّعيه التراثيون، ويعتقدون أيضاً أن الأصوليين كالتراثيين يؤكدون على العُلقة الباطنية والتفسير الداخلي للنصوص الدينية:
فيما يخص تفسير القرآن والأحاديث، يجب القول أن العلماء الحقيقيين يتوجهّون الى تفسير السّنة (التراث)، أعم من كونهم أصوليين أو تراثيين. طبعاً يرغب الذين يكتفون بكتابة الآثار الموجّهة الى العوام، أكثر الى تناول النصوص بشكلٍ سريع وغير دقيق، لكن لا يمكن اعتبار هذا الأمر وجه التمايز بين الأصوليين والتراثيين. وفيما يخص الشريعة، يؤكد الأصوليون كما التراثيون على العُلقة الباطنية والداخلية ولم تكن نظرتهم واحدة بالنسبة لإجراء الشريعة، بل كانت نظرة بعض الأصوليين كما بعض التراثيين والذين هم موضع فخرٍ ومباهاةٍ لدى الإتجاه التراثي، نظرةً متساهلة بالنسبة لإجراء وتنفيذ الشريعة.
على كلٍ، رغم الإعتراف بوجود تمايزٍ بين الأصوليين والتراثيين، ينبغي الإلفات الى أن الأصوليين لا يسعون أبداً الى انطباق الفكر الإسلامي مع المفاهيم المقبولة في العالم المعاصر، وليس مهماً بالنسبة إليهم كيف ينظر الناس في العالم الحديث الى الإسلام، وهم يفكّرون بخلوص الرؤية واتكاء العمل على النصوص الدينية أكثر من توجههم الى قدرات وقابليات الدين في حل الأسئلة الجديدة المطروحة في الحياة. ورغم أنّهم يستفيدون من تكنولوجيا وإنجازات الحداثة، ولكنهم لا يرون أنفسهم ملزمين بالوفاء الى الرؤية المعرفية للحداثة حول العالم والوجود، ولعل هذا الجانب السلبي في نظرتهم هو النقطة المشتركة بين فكرهم وفكر التراثيين. إلاّ أنّه يجب إضافة شيءٍ آخر أيضاً وهو أن ميزان قبول العقل للتعاليم الدينية و إيجاد التوافق بين التعاليم والحداثة عند التراثيين أكثر مما لدى الأصوليين. إذ لا يهتم الأصوليون إذا ما استعمل الغرب كلماتٍ حول العالم الإسلامي مثل العنف، الإرهاب، الإنحصارية، الصوت الواحد، عدم المداراة وانعدام الحوار وأمثال ذلك، بل يعتبرون أنفسهم ملزمين بالسنة والسيرة النبوية أكثر من الإلتفات الى هذه الإتهامات، ولا تشكّل لديهم مسألة التجدد، رؤية المستقبل والإنطباق مع ثقافة العصر أيّ أهمية. وقد أوجب هذا التلقي أن يسعى الغرب والذين يواجهون العالم الإسلامي في ترويج هذا الفهم الأصولي للإسلام بين عامة الشعوب الغربية وأن ينسبوا هذا الفهم للإسلام الى كافة المسلمين. ونظراً الى عدم ملائمة الصفات المذكورة مع الفطرة، فقد أدّى إيجاد هذا التلقي حول الإسلام الى نفور الشعوب الغربية من الإسلام. لكن في المقابل، يعتبر التراثيون أن قبول العقل للمفاهيم الدينية مهمٌ جداً في الإسلام، حتى أنّهم وقفوا بشدة ضد حادثة الحادي عشر من أيلول المنسوبة الى الأصوليين والذين يوافقونهم في الفكر واعتبروا تلك الحادثة ضد الدين، ولهذا السبب فقد سعوا بعد هذه الحادثة الى إثبات أنّ الإسلام بخلاف ما يُظهره الفكر الأصولي، أهل الحوار والمداراة وله سابقة عقلانية وأنّه لا يعادي المفاهيم البشرية.
كما ولابد من الإشارة الى أنّه رغم أنّ التيارات المنسوبة الى الأصولية في العالم الإسلامي، والتي تُعتبر الوهابية من أبرز ممثليها في العصر الحالي، لا تُقدّم أيّ نظرةٍ خاصة ومهمة حول المهدوية والمنجي، إلاّ أنّ اتجاههم أوجب تشكّل أدبياتٍ حول المنجي ومسلكاً في ساحة العلاقات الدولية في العالم الغربي، حيث أنّ الوجه المشترك لهذه الأدبيات تبرير الرؤية والتفوق العسكريين للدول الغربية والتي قامت بطرح صدام الحضارات، الفوبيا من الإسلام، الهلال الشيعي، الهجوم الوقائي، إيجاد القواعد العسكرية في المنطقة ونماذج سياسية أخرى، والسعي في حفظ مصالح اسرائيل والسيطرة على البلاد الإسلامية وتجزئتها وإيجاد تغييرٍ جيوبولوتيكية في منطقة الشرق الأوسط. في الحقيقة، يمكن القول أن الفهم الأصولي للإسلام وخصوصاً بعد حادثة الحادي عشر من أيلول هو الفهم المسيطر على المرحلة الجديدة من تاريخ الإستشراق والتي يُطلق عليها اسم المابعد استعمار ، ومن آثار هذه المرحلة في العالم الغربي تشكّل أدبياتٍ حول المنجي من قِبل المسيحيين وسياسيي الدول الكبرى. ولا يخفى أن ّنفس الأصوليين لا يُظهرون أيّ نظرةٍ خاصة حول المهددوية، ولكنّهم أثّروا بشكلٍ جليّ في تشكّل موضوعين: محاربة الإسلام وأدبيات آخر الزمان.
4. التراثيون
من المفكرين الأوائل المناصرين للأصالة يمكن ذكر المفكرين المعاصرين أمثال رينيه غنون ، كومارا سوامي ، فيتهيوف شوون وتيتوس بوركهارت الذين انبروا في نقد الحداثة وعناصرها الفكرية واعتبروا أنّ رمز فلاح الإنسان المعاصر يكمن في الرجوع الى الأصول الدينية وحقائق الأديان الإلهية الخالدة. فمن وجهة نظرهم، تملك الأديان حقائقاً وحكماً ثابتة وخالدة بحيث أنّها لا تفقد وظيفتها مع مرور الزمان، بل هي باقية خالدة. كما وأنّهم يعبّرون عن هذه الحقائق الخالدة بالحكم الخالدة ويعتقدون بضرورة الرجوع الى السنن والأصول الخالدة واكتساب العلم القدسي. فالتراث بنظرهم، عبارة عن أصولٍ لا تقبل التغيير ومستخرجة من الدين ذي المنشأ السماوي وهي لا تعني الطبائع، العادات أو أساليب ونظرة العصر القديم:"ليس التراث، رسمٌ أو عادةٌ أو انتقال جبريٌ للأفكار والمضامين من جيلٍ الى جيلٍ آخر، إنّما يُراد من التراث مجموعة من الأصول الآتية من العالم العُلوي". فالمقصود من التراث، وبإقرارٍ من كافة التراثيين، تلك الأفكار الأصيلة الضاربة جذورها في التعاليم الوحيانية للأديان والمتصلة بالحقيقة الإلهية والوحيانية، وليست السنن المستخرجة صرفاً من العقل الفلسفي أو العادات والتقاليد القومية والوطنية؛ بعبارةٍ مختصرة، التراث يعني "الدين". وبناءً لوجهة نظرهم، يوجد في مجتمعات ماقبل الحداثة، أعم من الحضارات المسيحية، الإسلامية، الهندوسية، البوذية، التائوئية وأمثال ذلك، عناصر ومؤشرات مشتركة وعمومية مستخرجة من التعاليم الوحيانية ويُقال لها "تراث".
ورغم أنّ كلّ واحدٍ من التراثيين قد طرح مباحث خاصةٍ به، ولكنّهم يتفقون فيما بينهم في المباني والأصول العامة وهذه الأصول المشتركة هي التي جعلتهم ينضوون تحت مذهبٍ فلسفيٍّ واحد. ومن الوجوه المشتركة بينهم، سواء بين الجيل الأول من المفكرين التراثيين، أو بين الجيل الثاني، المعارضة الشديدة للمعرفة الوجودية، الكونية، والمعرفية لدى عالم الحداثة، الإلتزام بوحدة الأديان المتعالية والإرتباط بين العلوم والمعنوية، كما ويعتبرون أنّ رمز فلاح ونجاح المجتمعات الشرقية ومن جملتها المجتمعات المسلمة العودة الى الأصول والمباني الدينية.
ومضافاً الى مخالفتهم لعناصر الحداثة أو التجدد، فهم يخالفون أيضاً الأصولية ومابعد الحداثة، كذلك هم يعارضون بشدة قبول وظائف العلوم التجربية وعدم معارضة الغرب في قدرة العلوم التجربية على طرح رؤيةٍ كونية جامعة للإنسان. كما أنّهم ليسوا على أيّ خلافٍ مع العقلانية، لكنّهم لا يقصدون بالعقلانية العقل الجزئي أو ما يُعرف بالراسيوناليسم التي هي أحد مباني الحداثة في عصر النهضة، بل مرادهم العقل الكلي المقبول من وجهة النظر العرفانية والتراث:
العقلانية على شكل العقل الجزئي هي الراسيوناليسم، ويخالف التراثيون الراسيوناليسم بشدة. ولكنّهم يعتقدون أنّ الله جعل في الإنسان شرارةً من النور الإلهي والذي هو ذلك العقل وهو من يستطيع معرفة التوحيد.
فهم يرون أنّ افكار الأديان في مجال معرفة الإنسان والكون لم تزدهر بسبب التمحور حول العلوم التجربية بعد عصر النهضة، وأنّه قد تمّ إزاحة العالم غير المادي الذي هو أفضل من عالم المادة وأكثر واقعية، الى الهامش وذلك بسبب بُعد هذا العالم عن متناول أيدي وضعية العلوم التجربية وقدرة إثباته. وبناءً لوجهة نظرهم، لقد سحب إنسان العصر الجديد يده من الوحي والتراث الديني الخالد لمصلحة العلوم التجربية وجذابيتها وأراد الإجابة عن كافة أسئلة الحياة بواسطة العلم التجربي. في حين أنّ العلوم التجربية، ليس أنّها لم توسّع من نطاق عالم الإنسان الجديد فحسب، بل جعلت العالم من حيث علم الوجود، أكثر محدوديةً وأنزلت من قيمته:
لقد رسّخت الحداثة قدميها في عالم الوجود بعد أن اكتشفت مصدراً جديداً للمعرفة: الأسلوب العلمي. ولأنّ اختبارات تحكم وسيطرة هذا الأسلوب جعلت العلماءَ قادرين على إثبات فرضياتهم، ولأنّ الفرضيات التي تمّ إثباتها لديها القدرة على إيجاد تغييرٍ أساسيٍ في عالم المادة والماديات، انتقل الغربيون في مقام بحثهم عن الصورة الكبيرة من الوحي الى العلم.
ويخالف التراثيون أيضاً مباني الحداثة والتي من جملتها: أصالة الإنسان ، التجريبية ، العقلانية ، الفردانية ، العلمانية والليبرالية بصفتها تشكّل الرؤية الكونية للعصر الجديد، كما ويعتبرون أنّ هذه الأصول الناشئة من باطن الحداثة مخالفة للهوية الواقعية للإنسان كما عُرّفت في الأديان. لذلك فهم يروون أنّ سبب الإختلاف الجذري بين التراثية وأفكار الغرب ناشئٌ من وجود رؤيتين كونيتين مختلفتين حول طبيعة الواقع. إذ ترجع جذور الحقيقة طبقاً لتراث الأديان الى الذات الإلهية والتي هي حقيقة الحقائق، لكن طبقاً للفكر الغربي المعاصر تُختصر هذه الحقيقة في عالم المادة.
وعلى أساس تراث الأديان الخالد، فإنّ ذات الخالق هي محور العالم، والله هو أصل كافة الحقائق، وقيمة أهمية الإنسان فرعٌ من محورية الله وهي في ظلّ شعاع العظمة والمجد الإلهي، بحيث أنّ الإنسان يُذعن بحقارته أمام ذات الخالق ولا تحصل عظمته الباطنية إلا بعبوديته وإطاعته للذات الإلهية. لكن في المقابل، كانت ولازالت الحداثة قائمة على محورية والوهية الإنسان والى إزاحة الإله الى الحاشية. من هنا، يرى التراثيون المباني الفكرية لعالم الحداثة حول حقيقة العالم متعارضة مع مباني الأديان، ولذلك يقومون بنقد عالم الحداثة.
كان رينيه غنون، وهو من جملة التراثيين الذين قاموا بنقد عناصر الحداثة مثل أصالة الفرد، محورية الإنسان، أصالة المادة، أصالة العلم، أصالة العقل وأصالة التساوي، على اعتقادٍ أنّ العصر الجديد الذي يمرّ فيه الغرب، هو آخر مرحلة من مراحل البشرية حيث يعيش الإنسان فيها بعيداً عن المعنوية والتراث. ويسمّى غنون هذه المرحلة بالمرحلة الرابعة من مراحل البشرية أو مرحلة ظلمة "كالي يوغا". وهي مرحلةٌ يتنزّل فيها الإنسان من مقامه وقيمته الألوهية والسماوية ويُنظر إليه كحيوانٍ (حيٍّ) مثله مثل باقي الحيوانات وبخلاف اعتقاد الأديان، لا يتمتع في وجوده بأيّ قيمةٍ سماوية. من هنا، يُطلق غنون على هذا العصر اسم عصر ظلمة البشر، ويعتقد أنّ التحرر من هذا الوضع يحتاج الى حادثةٍ كبيرة.
كما ويعتبر غنون، متأثراً بالأدبيات الدينية الموجودة في الإسلام والدين الهندوسي، أنّ خلفيات ظهور الموعود هي نفس هذا الإضطراب الموجود في العصر الجديد، ويُطلق على الوضع الموجود للعالم المعاصر اسم المرحلة المنقلبة والتراث المعكوس، كما ويعتقد أن "المرتبة الأخيرة لتكامله، الإنحراف" ، ويجعل مقابل ذلك مفهوم الرجعة بمعنى إيصال المجتمع الى الوضع العادي والمطلوب الذي هو في الواقع، نتيجة مرحلة ترميم آخر الزمان:"الترميم، هي اللحظة النهائية (آخر الزمان) التي يجب أن تتجلى على أحسن وجه، على شكل "إقلاب (نكس)" كافة الأمور بالنسبة للوضع "المنقلب"، لترجع مباشرةً الى ما قبل هذه اللحظة التي أحاطت بهذه الأمور..."
ويرى غنون في المرحلة "المنقلبة" والتي يُعبّر عنها في فكره بمرحلة آخر الزمان، الأرضية لتحقق التراث والمعنوية ومن وجهة نظره لا يعني انتهاء العالم إنتهاءً للحياة البشرية، بل بمعنى انتهاء مرحلةٍ إنسانية. وهو يعبّر عن انتهاء تاريخ العالم بإنهيار الحضارة الغربية ويدعو مرحلة الظهور بالعصر الذهبي، ويقسّم نوع البشر في تقسيمٍ كلّي الى شرقي وغربي أو شرق وغرب، وليس بالضرورة أن يكون مراده الشرق والغرب الجغرافي. إنّ الذي سعى غنون الى إثباته، المعنى الرمزي لهذين المصطلحين اللذين يشيران الى التمسك والإلتزام أو عدم الإلتزام بالأصول المعنوية، وإنّ التضاد والتعارض بين الشرق والغرب ناشىءٌ من التضاد والتباين بين روحياتهما، قبل أن يكون ناشئاً من موقعيهما الجغرافي. ورغم التنوع الديني والثقافي الموجود في كلٍّ منهما، ولكنّ غنون يرى أنّ الإعتقاد بالأصول المعنوية والحكمية مشتركٌ بينهما. لذلك، في فكر غنون والكثير من التراثيين، يشير تعبير الشرق الى شروق المعنوية والحكمة والمقصود من الغرب هو غروب وأفول الأصول المعنوية والسنن الروحانية:
إنّ جميع الحضارات (الشرقية) مبتنيةٌ على أصولٍ أساسيةٍ واحدة، والتي هي فقط مظهر التحقق والتنفيذ المشروط لتلك الأصول (المعنوية والحكمية) في ظلّ الظروف المتنوعة... نحن في الوضع الحالي، من جهةٍ لدينا بشكل عام حضاراتٍ بقيت وفيةً لروح السنن المعنوية والروحانية وهي عبارة عن مجتمعات بلاد الشرق، ومن جهةٍ أخرى، لدينا حضارةٌ من نوعٍ آخر يُخالف تلك القيم وهي تشكّل دول عالم الغرب.
ويعتقد التراثيون أنّه لتجديد حياة التراث في الغرب، يجب الإستلهام من التراثات الموجودة في الشرق، لأنّه رغم أنّ العالم الغربي لا يُظهر اشتياقاً للرجوع الى تراثه، لكنّ مصباح القيم في المشرق مازال مضيئاً، ويجب أن نرجع الى خلود عقلٍ كان قد تجلى يوماً في أفكار أفلاطون، أفلوطين، آباء الكنيسة ومدرّسي القرون الوسطى، وأنّ نفسّر كافة أمور الحياة المستحدثة المعاصرة على أساس تلك الحقيقة الواحدة والخالدة. طبعاً، هم لا يعتبرون مخالفة التجدد والحداثة بمعنى مخالفة الغرب، بل تعني مخالفة التجدد بذل الجهد لإنقاذ العالم الغربي من قبضة الفوضى والإضطرابات التي أوجدتها الحداثة والتحرر من النافذة المغلقة والمحدودة للعلم عن طريق الرجوع الى التراث الوحياني:
إذا تصورنا التراثيين الذين ينظرون الى العالم من خلال نافذة الوحي (يعني أساطيرهم المأثورة ونصوصهم المقدس). فالنافذة التي اتجه الناس إليها في عصر الحداثة هي نافذةٌ صغيرة (العلم) وهي لا تجعل الإنسان يرى أبعد من أنفه، وهذا الكلام من وجهة النظر المعرفية يعني أنّه عندما ننظر من نافذة العلم، سيكون نظرنا متجهاً الى أسفل ولن نرى إلا الأشياء التي هي أقل مستوىً منّا.
ويرون أيضاً أن المسلمين اتجهوا نحو ثلاثة نظريات وتحاليل في مقابلتهم غزو الحداثة للحضارة الإسلامية: 1. هذه الهزيمة الكبرى علامةٌ على آخر الزمان وظهور المهدي أو المنجي، 2. لم يتّبع المسلمون الأحكام الإسلامية كما يجب وعليهم أن يرجعوا الى اتباع الوجه الأصيل للدين في بحثهم عن إجاباتٍ للأزمات المعنوية، الدينية والسياسية الموجودة في العالم الإسلامي، وأن يكون مطلبهم إجراء شرعة الإسلام، 3. يجب أن تنطبق رسالة الإسلام مع العالم الحديث كي يتغلب على تفوق وأفضلية الغرب. بناءً لرأي التراثيين، أدت هذه التحاليل والتفاسير ونظراً الى سابقة البلاد الإسلامية الى تحقق ثلاثة تيارات فكرية:
1. المهدوية أو حركات الإيمان بعيسىMessianic، 2. الاصولية كالوهابية في السعودية، 3. التيارات الحديثة والمتجددة كحركة تركيا الفتاة او الليبرالية العربية. وقد تمّ الإلتفات الى هذه الأفكار مرةً في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، ومرةً أخرى بعد الحرب العالمية الثانية، حيث أنّه في المورد الثاني أدّت هذه الأفكار الى ظهور تياراتٍ مثل المهدوية، التجددية، والاصولية.
5. المهدوية الأداتية
لا يخفى أنّه في العلوم الإجتماعية، لا يمكن أبداً حصر تحقق تياراً فكرياً، نهضةً اجتماعية أو سياسية بعاملٍ واحدٍ، ولا يُستثنى من ذلك ظهور بعض الفرق، المجموعات المهدوية أو التيارات المدّعية للمهدوية. إذ أنّ تشكّل وظهور هذه الفرق والتيارات تابعٌ لعللٍ وعواملٍ متعددة. لكن في عصر ما بعد النهضة، قطعاً إنّ أحد عوامل التشكّل والإستفادة الأداتية من المهدوية يكمن في الشروط والوضعية الناتجة عن عصر النهضة والحداثة، ولشدة ما تغلغلت هذه المرحلة في المجالات المختلفة، فقد كانت مؤثرة فيها جميعاً.
وإنّي أعتقد أنّ أحد ردات الفعل مقابل المشاكل الناتجة عن الحداثة بين المسلمين، كانت في الإستفادة من المهدوية أو اللجوء إليها؛ بعبارةٍ أخرى كانت مواجهة المشاكل الناتجة عن الحداثة من جملة الدوافع المتصاعدة في الميل نحو ثقافة المهدوية والإستفادة الأداتية منها في مجالاتٍ اجتماعية وفردية مختلفة. ففي القرون الثلاثة الأخيرة ـ بعد عصر النهضة الصناعية في الغرب ـ، أوجدت التحديات التي واجه بها الغرب العالم الإسلامي في عصر الحداثة، وضعيةً استمرت منذ عصر النهضة في بلادٍ مثل ايران، الهند، أو البلاد الإسلامية في افريقيا حيث ظهر فيها أكثر مدعّي المهدوية. في الواقع تكمن أحد العوامل التي أدّت الى ظهور البابية والبهائية في ايران، أحمد القادياني في الهند، ومحمد أحمد السوداني في السودان، مهدي السنغال ومهدي تونس والمدّعون الكثر في أفريقيا، الى جانب دلائل تاريخية أخرى، في رد الفعل مقابل الوضعية الإنفعالية للمسلمين أمام العالم الجديد. فمنذ هذه المرحلة، أوجد العالم العلماني الغربي وضعيةً في كافة المجالات مثل الإقتصاد، المجتمع، الدين وغيره. هذه الوضعية جعلت المهدوية بصفتها أحد أكثر التعاليم الفاعلة في الفكر الإسلامي ثباتاً والمتكئة على حضور وحياة منجٍ حيّ وموجود بين الناس، جعلتها من جهةٍ حربةً في أيدي بعض المحتالين ومن جهةٍ أخرى ملجأً من سقوط بعض المتحيّرين من العوام والخروج من الوضعية المؤسفة للمسلمين. ولقد أثّر بشدة ورود العناصر الجديدة للحضارة الغربية، مثل النمو الصناعي، الإختراعات والإكتشافات، منهجية العلوم، الإصلاح الديني (بروتستانتيسم)، الثورات السياسية والإجتماعية، الأنظمة الرأسمالية والإنتاج الآلي المتراكم المترافق مع الحداثة، على الرؤية والوضعية الفكرية والإجتماعية للشرقيين وجعلتهم يعيشون في اضطرابٍ، ولعله لم يعد اليوم بالإمكان تصور هذه الرؤية والوضعية لشدة ما تطبّع الناس بهذه العناصر.
إنّ إلقاء نظرة الى تاريخ الثقافة الإسلامي، يحكي عن ظهورٍ دائمٍ لعددٍ من الأفراد في الحركات السياسية، النهضات، يبحثون عن مشروعيةٍ لهم بالإعتماد على المكونات والعناصر الموجودة في بحث المهدوية، وما اكثر الأفراد أو القادة السياسيين، منذ العصر الأموي وحتى عصر ولادة الإمام المهدي، الذين نسبوا المهدوية الى أنفسهم. ومنذ ولادة الإمام المهدي الى يومنا هذا، مضافاً الى إدّعاء البعض المهدوية أو ارتباطهم بالإمام، قاموا أيضاً باستثمار الثقافة المهدوية والمفاهيم المتعلقة بالمنجي في تبرير الأفكار السياسية والدولية أو لأجل الإستقطاب وزيادة محبوبيتهم؛ حيث يُلاحظ استبطان كافة هذه السبل نوعاً من الإنحراف وابتعادٍ عن التعاليم الإسلامية. وقد نتج عن استغلال مسألة المهدوية والإنحراف عنها، أضراراً:
1. اجتماعية (المجموعات والفرق الإنحرافية المنتسبة الى الإمام المهدي)؛
2. سياسية (النظريات السياسية غير المقبولة)؛
3. نفسية (الهذيان والأوهام النفسية).
وإذا بحثنا اليوم في العالم الإسلامي، لحصلنا على إحصاءٍ واسعٍ من المجموعات والفرق الصغيرة والكبيرة، إذ أنّ بعضها اتجه نحو الإستفادة من الثقافة المهدوية والمفاهيم التي تتضمنها لأجل مواجهة الإحباط، الهزائم الوطنية، خيانة حكّام الدول الإسلامية والغزو المستمر للحضارة الغربية للمسلمين؛ وقد ظهرت بين هذه المجموعات والفرق أحياناً أفكاراً واعتقاداتٍ منحرفة وبعيدة عن التعاليم الإسلامية. فالمهدوية أصبحت بصفتها مفهوماً دينياً مهماً في مجال إنقاذ المجتمعات والناس سواءً في التجارب الدينية أو المجال الإجتماعي، محملاً لتبرير الكثير من الإنحرافات النفسية والإجتماعية؛ بحيث غلب اتجاه الإستفادة الأداتية من المهدوية كوسيلةٍ للوصول الى القدرة السياسية من قِبل عددس من الفرق الإسلامية الصغيرة. وتأتي المهدوية أو الإعتقاد بالموعود في أعلى مستويات الإستفادة الأداتية من التعاليم الدينية بين أتباع الأديان الإبراهيمية. و يعتبر الإعتقاد بالمسيح في المسيحية أو الإمام المهدي في الإسلام لأجل تبرير التجارب الدينية والعرفانية والإعتقاد بعودة المسيح وظهور الإمام المهدي في الحقل الإجتماعي، من أهم عوامل تبرير التجارب الإنسانية والتحولات الإجتماعية والسياسية لبعضٍ من الإنحرافات النفسية والإجتماعية. ففي السنوات الأخيرة، مضافاً الى اتخاذ استغلال المهدوية في البلاد الإسلامية أشكالاً متعددة واعتبارها سبيلاً للخروج من وضعية المسلمين المتخلفة والمشاكل الناتجة عن الحداثة، كذلك الأمر في الغرب، فقد اعتمدت بعض السياسات الدولية للدول المهيمنة على الأدبيات المتعلقة بالمنجي ومفاهيم آخر الزمان.
في الواقع، إنّ رد الفعل لبعضٍ من المسلمين مقابل الحضارة الغربية وضياعهم وحيرتهم الروحية والإجتماعية في العصر الجديد، كالذي أحاط بكلٍّ من تياري الأصولية والتراث، أدّى الى اتجاه بعضٍ منهم نحو المفاهيم المهدوي. وتلقّى عدةٌ منهم أنّ هذا العصر عصر سلطة وسيطرة الحداثة بسبب تحقق مفهوم آخر الزمان وعصر الظهور. ومال البعض الآخر في مواجهتهم للحكام الظالمين، الحداثة، النجاة من إحتلال استعمار الدول الغربية، إخراج المستعمرين الأوروبيين والتحرر من العلمانية، نحو الإدعاءات المهدوية والتي من جُملتها إدّعاء الإرتباط مع الإمام المهدي، إدّعاء المهدوية أو أخذ الأحكام والأوامر من المهدي. وكرد فعلٍ على الإبتذال والإنحرافات التي أوجدها العصر الحديث، مال البعض الى نسب تجاربه الروحية والدينية الى الإمام المهدي وإدّعى رؤيته وهكذا يُعطي هؤلاء من خلال هذا الإرتباط بأشكال متفاوتة المشروعية لسلوكهم وقولهم.
على سبيل المثال، بناءً لإعتقاد بعض المستشرقين أمثال هالت ودالي، أنّه من جملة العوامل التي أدّت الى إدّعاء المهدوية من قِبل محمد احمد السوداني في السودان، المشكلات الناشئة عن عصر الحداثة ومحاولة استرداد حقوق الشعب التي نهبها الأوربيون والأزمات المالية الناتجة عن القروض الخارجية وإخراج المحتلّين الأجانب والمستعمرين الأوروبيين من بلاده. فقد دعى محمد احمد السوداني وأتباعه الشعب الى الإسلام ومكافحة نهب الأتراك المصريين، الاوروبيين وحكّام المنطقة لثرواتهم، ولأجل حلّ مشاكل البلد وإخراج المحتل الأجنبي والمستعمرين الأوروبيين؛ وقد استطاع عبر ادّعاء المهدوية وبالترافق مع ثلاثة عناوين: الإمام، خليفة رسول الله والمهدي الموعود، استقطاب عدداً كبيراً من الناس وتشكيل نهضته. ومن وجهة نظر هؤلاء المستشرقين، كانت ومازالت مسألة إدعاء ظهور المهدي في التاريخ الإسلامي من الأمور المتعارف عليها عند ظهور الأزمات في بعضٍ من الدول، ومضافاً الى محمد أحمد السوداني، هناك أشخاصٌ آخرون أمثال عبيد الله في مصر ومحمد بن تومرت في اسبانيا وشخصٌ آخرٌ انهزم مقابل نابليون، كان لديهم الإدّعاء بالمهدوية:
في زمن الأزمات في العالم الإسلامي، كانت ومازالت مسألة ظهور "مهديّ" يدّعي التقدس الهي لإزالة النظام السابق وإقامة حكومةٍ علمائية أمراً عادياً. فقد أقام "مهديين اثنيين" في القرون الوسطى نظامين سياسيين قويين، أحدهما عبيد الله مؤسس سلسلة الفاطميين في أفريقيا الشمالية ومصر في القرن العاشر، والآخر محمد بن تومرت، حيث قام أتباعه "الموحّدون" في القرن الثاني عشر بفتح وحكم شمال غرب افريقيا واسبانيا التي كانت يحتلها المغاربة المسلمون. وفي الفترة الأخيرة، ظهر العديد من المدّعين الآخرين، من جملتهم شخص هُزم في هجومه على جيش نابليون الفرنسي في نهاية القرن الثامن عشر في مصر.
في الواقع، لقد كان محمد أحمد السوداني متأثراً بحركة محمد بن علي السنوسي الإصلاحية وضد الاستعمار في ليبيا، وكذلك برؤية السيد جمال الدين اسد آبادي في مصر الذي تتلمذ عليه عدة سنوات في مصر، وورث روحية مقاومة الإستعمار منهما. ومن عوامل الإستثمار الأداتي للمهدوية من قِبله، وضعية العصر الجديد في العالم الغربي وغزوهم الفكري والثقافي، مناضلة المستعمرين والمحتلّين الأنكليز، مشاكل المسلمين السودانيين مقابل هؤلاء المستعمرين والمحتلين ونشر الدين في كافة العالم:
مرّت المجتمعات التقليدية والمسلمة في شمال أفريقيا والمناطق الأخرى في هذه القارة في القرون الأخيرة من حيث الوضع الداخلي في حالة انحطاطٍ وتخلف... بسبب بُناها الضعيفة والظروف الظالمة واستبداد الحكّام... وأهم من ذلك كانت هذه المجتمعات على مستوى العلاقات الدولية هدفاً لهجومٍ مدمر من قِبل الإستعمار الثقافي، السياسي والإقتصادي الغربي.
وهكذا عبر ادّعائه المهدوية، طلب من الناس القيام ضد المستعمرين وكان يعتقد أن حكومة المهدي سوف تقضي على الظلم واعتداء الظالمين. انطلاقاً من هذا الإدعاء، استطاع جمع الناس حوله لمقاومة ومجاهدة الدول الأوروبية مثل بريطانيا، وكان يهدف الى تحرير كافة الدول الإسلامية من سيطرة الإستعمار الغربي وتأسيس الحكومة الإسلامية في العالم.
كذلك، يبدو أن من الخلفيات التي ساعدت على ازدياد المهدوية الأداتية والإرتباط مع الإمام المهدي في العصر القاجاري، وقدرة تغلغل فرقٍ أمثال البابية والبهاية بين عدة من الناس، الإستفادة من الأجواء السائدة في ايران في تلك الحقبة والوضعية التي أوجدتها الحداثة في ايران. في تلك المرحلة، سيطرت عناصر الحداثة بشدّة على الثقافة الإيرانية وظهر رسوخها في كل الأماكن ونفذت عناصر الحداثة مثل التجدد، التعلق بالدنيا، فصل الدين عن السياسة، انطباق الدين مع الحياة المادية، الإباحية، التعلق بالدنيا بدلاً من الآخرة، والحاجة الى الإصلاح والتغيير في المذهب، الى الثقافة الإيرانية. ويُرى آثار التجدد الناشئة عن الحداثة في أفرادٍ مثل حسينعلي ميرزا:" بسبب الموقع الخاص لحسينعلي ميرزا بين البابية، وبتصريحٍ من الشيخ احمد روحي وآقاخان كرماني، ظهرت شيئاً فشيئاً آثار التجدد والتساهل والتفاخر والتكبر في أحوال بهاء الله. واضطرب بعض القدماء... من مشاهدة هذه الأحوال، فقاموا بتهديد بهاء الله."
استطاعت البهائية أيضاً في بداية حركتها الإستفادة من هذا التجدد بالإعتماد على مفاهيم المهدوية وأمّا الناس الحائرون والمتعبون من أوضاع تلك الحقبة والذين كانوا يعتقدون أن السبيل الوحيد لحلّ مشكلات عصرهم يكمن في ظهور الإمام المهدي، ومع وجود الجهل والإعتقاد بالمهدوية، فقد آمنوا بالحركة البهائية. من هنا، قام قادة هذه المجموعات في الحقبة القاجارية – من الشيخية الى البهائية- بإيجاد مذاهب انحرافية عبر الإستفادة من مفاهيم المهدوية مثل الوكالة، الركن الرابع، البابية، الإمامة والقيام بتأسيس مفاهيم أخرى. واعتبروا أنفسهم متصلين بالوحي والسماء عن طريق الإستفادة من مفهوم المهدوية؛ وما كان من الناس بسبب إيمانهم بالإعتقادات الدينية واهتمامهم بمسألة الإمامة، وبأنّها هي المنجية، بالوعود الإلهية في إقامة حكومة العدل وخصوصاً الحياة الجسمانية للإمام المهدي، إلاّ أن آمنوا بمدّعي المهدوية؛ وضلّوا طريقهم بسبب جهلهم في تعيين مصداق المهدوية. ومن الطبيعي في تلك الحقبة، أن يقوم ملوك القاجار المهوسين في التسريع من رداءة الأوضاع، ذلك أنّهم كانوا متعلقين بشدة بالحضارة الغربية، فكان مظفر الدين شاه وناصر الدين شاه يأخذان الضرائب من الناس ليسددوا أقساط القروض الناتجة عن أسفارهم الى الغرب، فلم يبقى سبيلٌ أمام الناس المتدينين سوى الإستجابة لأيّ نداءٍ يدّعي المهدوية. مضافاً الى ذلك، قام مناصري علي محمد باب، مثل ملا حسين بشرويه بتشجيع الناس في الإلتحاق بإمام العصر، وذلك عندما توجه الى شيراز آتياً من خراسان وقد رفع رايةً سوداء عامداً متعمداً، كي يدّعي أن الرايات السوداء قد خرجت من خراسان والتحقت بإمام الزمان، وقد تبعه حقاً عددٌ من الناس بكلّ صدقٍ.
بناءً على ما تقدّم، اعتبر بعضٌ من المفكرين عواملاً مثل الإنحطاط وزوال النظام السياسي لإيران، الفساد السياسي للحكّام، تنافس واجتهاد الدول الإستعمارية في السيطرة على الثروات الوطنية في ايران، اعطاء الملوك إمتيازاتٍ للدول الأخرى في نهبهم للثروات الوطنية، الإنفعال السياسي ـ الإجتماعي للتشيع نتيجة بدع الشيخية وارتداد البابيين وجهل وسذاجة العوام من الناس، والناشئة من تقابل الإسلام والحداثة وانفعال الملوك القاجاريين، من أهم عناصر العصر القاجاري وما قبل ثورة المشروطة (أو ما قبل الثورة الدستورية). بحيث أنّ البابية واستفادتها من المهدوية في تلك الحقبة المعروفة بالإختراعات والإضطراب السياسي، كانت تشكّل تمرداً على أوضاع الدولة والمذهب الرسمي في المجتمع:" ليس من العجب أن البابية التي هي انشعابٌ من الشيخية، كانت حركة اجتماعية ضد الحكومة وأيضاً بدعةٌ مذهبيةٌ في إطار مذهب الشيعة." في الحقيقة، لقد كان البابيون والبهائيون حماةً للمصالح والسياسات الغربية في ايران وقد أعطتهم الأوضاع القائمة آنذاك والناشئة عن عناصر الحداثة في ايران الجرأة في اختراع هذه البدع حول المذاهب وبدأوا حركتهم في البداية بإدعاء المهدوية:" لقد أعلن زعماء البابية والأزلية والبهائية... عن إطاعتهم المطلقة للسفارات الخارجية، كي يصبحوا من خلال ذلك وفي ظل حماية السياسات الأجنية مجرىً للمخططات والمؤامرات التي تؤدي الى ازدهار أعمالهم من جهة، والى جذب رضا اللاعبين والمخططين السياسين الأجانب" . وهناك تشابهٌ كامل بين الوضع الإجتماعي والسياسي في عصر القاجارية والأوضاع الإقتصادية والإجتماعية السيئة لشعوب أفريقيا والفقر الفكري الشديد عندهم الذي أدّى الى ادّعاء المهدوية من قِبل عبيد الله المهدي في قيام الفاطميين أو محمد احمد السوداني في السودان.
ولم يغفل البهائيون في استمراريتهم لحركة البابيين، مضافاً الى إدراكهم لنقاط القوة والقدرة في بحث المهدوية بين الناس وقد استفادوا من ذلك في تثبيت قدرتهم، عن استثمار حماية الدول الغربية مثل روسيا وبريطانيا، فعندما كانوا يقعون في دائرة خطر تهديد الناس وعلماء الشيعة كانوا يتلقون المساعدة منهم، بحيث كانت أفكار وآراء فرقة البهائية والأزلية في العصر القاجاري مورد قبول الروس والإنكليز الذين كانوا يتنافسون على حماية وتقوية هاتين الفرقتين:
كان لبهاء علاقات مع الموظفين السياسين الروس في طهران، وهذا ما ظهر عندما سُجن، فعمل الروس على إطلاق سراحه وأرسلوا برفقته غلاماً من طهران الى بغداد. بعد ذلك، أظهرت دولة الإمبراطورية الروسية في السر والعلن علاقتها ببهاء ومجموعته... ومن تلك الجهة، انطلاقاً من أنّ الإنكليز كانوا يروون في الروس منافسين لهم في سياستهم الشرقية، قاموا بدعم ميرزا يحيى الأزل الذي انفصل عن بهاء.
في الواقع، إنّ الوجه المشترك بين مدّعي المهدوية وأتباعهم هو في أنّ جميعهم استفادوا من أدبيات المهدوية بشكلٍ غير مشروع، وأنّ أحد عوامل رد فعلهم مقابل المشكلات الناشئة عن ورود الحداثة بين المسلمين، كانت في الإستفادة من المهدوية أو اللجوء إليها. وإنّ إلقاء نظرةٍ على كافة العناصر الثقافية من جملتها الفن، العمارة، بناء المدن، الأدبيات، السياسة والمذهب في الجزء الأخير من العصر الصفوي والحقبة القاجارية، ينمّ عن التأثر والإنفعال بعناصر الحداثة في تلك المرحلة.
الإعتقاد الأداتي بالموعود في الغرب: مضافاً الى البحث السابق حول البلاد الإسلامية، من جملة الأسئلة المهمة في الحقل السياسي للعالم الغربي أيضاً هو هل أنّ التوجه والاتجاه المتزايد يوماً بعد يوم للحضارة الغربية نحو أدبيات آخر الزمان والخطاب الديني، دليلٌ على توسع انتشار التدين والتعلق بالمعنوية والإعتقاد بمنجي الأديان، أو في سبيل تحقق أهدافٍ واستراتيجياتٍ عسكرية؟ هناك فرضيتان في هذا الشأن:
1. لا يعني ترويج أدبيات آخر الزمان في العصر الجديد وخصوصاً في العالم الغربي بالضرورة ترويجاً للمباحث الدينية والإعتقاد بالموعود، بل ذلك نوع من إيجاد حلٍّ وسبيلٍ على صعيد العلاقات الدولية من أجل مواجهة الإسلام ومشكلات الشرق الأوسط؛ بحيث أنّ بلداً كأمريكا يسعى على أساس مفاهيم آخر الزمان بطرح بديلاً يهودياً ـ مسيحياً مقابل الأدبيات الإسلامية، لكي يتمّ الإستفادة في حرب الغرب على الإسلام في منطقة الشرق الأوسط من وسيلةٍ دينية. في الواقع، من أهم دوافع هذا الإتجاه، محاولة الخروج من المشاكل الموجودة في العلاقات الدولية واتخاذ استراتيجية فعالة مقابل العالم الإسلامي.
2. إنّ الإلتفات والإهتمام بأدبيات الإعتقاد بالموعود وآخر الزمان والخطاب الديني، دليلٌ على انتشار التدين والميل المعنوي في العالم الغربي وبين عموم الناس، وقد استفزّت تحولات القرن العشرين، خصوصاً الثورة الإسلامية في ايران وانهيار الإتحاد السوفياتي، نوعاً من العودة الى المفاهيم الدينية والميتافيزيقية، حيث نشهد تجلي ذلك في الفن والأدبيات السياسية للغرب. وهذه الفرضية لديها احتمالين:
الف) التوجه الى المعنوية والعرفان جديد الظهور (معنوية بدون شريعة): بناءً لهذه الفرضية، يميل الناس في المجتمعات الغربية نحو الإتجاهات الدينية التي لا تملك شريعة وجوانب مناسكية وشعائرية، وهم يرتضون بالنِحل والمذاهب التي لا تخلق للإنسان الحداثوي أية محدودية أو تأطير، لأنّ إنسان العصر الجديد لديه روحية الإباحية وهو يسعى لأن يعيش بدون قيود وبدون حضور الأطر الأخلاقية للأديان الإبراهيمية. انطلاقاً من ذلك، ازداد التوجه في العصر الجديد نحو الأديان الهندية، اليوغا، المديتيشن، علم النفس الجديد والأخلاق المافوق دينية.
ب) التوجه الى الأديان الإبراهيمية والنصوص المقدسة (الإتجاه نحو الأديان السماوية): بناءً لهذا الإحتمال، هناك نوع من الرجوع الى الأديان الإبراهيمية وجوانبها المناسكية والشعور بالحاجة الى التعاليم الوحيانية بدون أيّ شائبة سيايسة وأغراضٍ مصلحية. يمكن أن يعتقد بعض المفكرين أنّه ازداد في العقود الأخيرة التوجه نحو السنن الدينية بين عامة الناس في المجتمعات الغربية ويتلقون ذلك على أنّه نوعٌ من التدينّ بين المجتمعات الغربية. في الواقع، إنّ الأدبيات المطروحة من قِبل الحكّام السياسيين في الغرب، هي تجلٍ وتبلورٍ لإتجاه الناس نحو الدين والمفاهيم المذهبية وإنّ استخدام المفاهيم المتعلقة بالموعود من قِبلهم ليس لأهدافٍ وأغراضٍ سياسية. ولا يخفى أنّه يمكن هنا طرح احتمالٍ ثالثٍ وهو الجمع بين الفرضيتين، بمعنى أنّه مضافاً الى ازدياد التوجه نحو المفاهيم الدينية وآخر الزمان أو النصوص المقدسة بين عامة الناس، لكن السياسيون أيضاً استفادوا من هذه الأدبيات في سبيل التنظير السياسي وفي مجال العلاقات الدولية ويسعون لتحقيق أغراضٍ سياسية.
6. المهدوية بمثابة فلسفة تاريخ
الى جانب النظريات الخمسة الآنفة الذكر، هناك اتجاهٌ آخر وهي النظرية المختارة والتي تتوافق مع النظرة الإسلامية حول فلسفة التاريخ ومستقبل البشرية، وهي تتوجه الى المهدوية بالإتكاء على فهم النصوص الدينية المتمحورة حولها. من وجهة النظر هذه، إنّ الدولة المهدوية العالمية أمرٌ مقبولٌ ومبتنيٌ على التنبؤات الدينية التي أكّد عليها دائماً أئمة الدين والنصوص الدينية على مرّ التاريخ وكانت جزءً من المفاهيم المشتركة لكافة علماء الفرق الإسلامية والأديان الإبراهيمية. إلاّ أنّ قبول هذا المفهوم لا يعني الهروب من التكليف وعدم الإهتمام ببناء المجتمع، بل بمعنى البحث في أمرٍ قطعي الحدوث وأنّها أحد السنن الإلهية الخالدة التي لا تخالف أبداً الجهد الإنساني. فهذا الإمام الخميني من جملة الذين كانوا في مسير تشكيل الحكومة الدينية، ورغم أنّه كانت تواجهه دائماً في العقود الأخيرة السابقة التحديات والصراعات والأزمات السياسية المهمة جداً، إلاّ أنّه لم يستثمر المهدوية بشكلٍ سطحي ولم يستفد منها استفادةً أداتية، ورغم أنّ الإعتقاد بالمهدوية من لوازمه الفكرية ولوازم أيّ عالمٍ ديني، إلاّ أنّه لم يتساهل ابداً في أداء تكاليفه ووظائفه الدينية ولم يمنعه الإعتقاد بالمهدوية وظهور المهدي عن الحركة وبذل الجهد، بل إنّ قبول المهدوية كان مناطاً فقط بصفته تلقّى ورؤيةٍ حول فلسفة التاريخ في تعاليم الكتاب والسُّنة.
وباللحاظ التاريخي، يمكن اعتبار رؤية العلماء الإسلاميين ومفكرين أمثال النائيني وشريعتي حول المهدوية وفي مواجهة الحداثة، مبتنيةٌ على نظرة فلسفة التاريخ. على سبيل المثال، اعتبر المرحوم النائيني في تقسيمه للسطنة الى تمليكية وولايتية، أنّ العصمة حافظةٌ للسلطنة الولايتية وهذا المقام متعلقٌ بالإمام المعصوم، وبما أنّ الوصول الى الإمام في هذا العصر غير مقدور عليه، فيتعلق هذا المقام بالإضطرار بالحكّام الآخرين ويعطي الأهمية في هذا المسير الى الإشراف والنظارة المؤسساتية مثل المجلس أو الدستور:
وفي هذا العصر، حيث أنّ يد الأمة قاصرة عن حياض العصمة ومقام الولاية ونيابة النواب العاميين في إقامة الوظائف الآنفة الذكر مغصوبة وانتزاعها غير مقدور عليه، أليس إرجاعها من النحو الأولي الذي هو ظلمٌ زائدٌ وغصب بغصب، الى النحو الثانوي وتحديد استيلاء الجور بالقدر الممكن، واجبٌ؟ أو أنّ مغصوبية المقام، موجبٌ لسقوط هذا التكليف؟
وهو رغم اعتباره أنّه في زمن الغيبة لا تتوفر الشرعية الذاتية لأيّ حكومةٍ، وأنّ الفقهاء هم خلفاء الإمام في عصر الغيبة:" ولقد اعتبرنا أن نيابة فقهاء عصر الغيبة في ذلك (الوظائف الحسبية)، قدرٌ متقين وثابت... وإنّ أهمية الوظائف العائدة الى حفظ ونظم الممالك الإسلامية من بين كافة الأمور الحسبية من أوضح القطعيات، لهذا سوف يكون ثبوت نيابة الفقهاء والنواب العاميين في عصر الغبية في إقامة الوظائف المذكورة من قطعيات المذهب" ، إلاّ أنّه كان يقول في عصر المشروعية والتي كانت أكثر المواجهات المباشرة بين الثقافة الإسلامية والحداثة والغرب جدّيةً، وبالإتكاء على المباني الفقهية، بالتوافق والتلاؤم بين الدين والحداثة والعناصر الجديدة التي أدخلها المفكرون الى الأدبيات السياسية في ايران. فهو بناءً لإعتقاده بأصالة البراءة، أصالة الحلية، أصالة الطهارة، وباقي الأصول الفقهية العامة، كان يعتبر أنّه طالما عناصر الحداثة مثل الجمهورية، البرلمان، الإصلاح وغيره غير مخالفة للإسلام، فهي اسلامية وانطلاقاً من ذلك استطاع إيجاد التلاؤم والإنسجام بين الدين وعناصر الحداثة. وكان يعتقد احمد كسروي أنّ علماء الشيعة وبسبب اعتقادهم بالمشروعية المنحصرة في حكومة الأئمة، فهم مخالفون دائماً لأيّ مفهومٍ حول الدولة والنظام السياسي. لكنّ النائيني ورغم وجود هذا الإعتقاد ومشروعية دولة الإمام المهدي، استطاع إيجاد التوافق بين الدين والحداثة واستطاع المواءمة بين المفاهيم التي أتى بها المفكرين الذين تعلّموا في فرنسا وأدخلوها الى الأدبيات السياسية في ايران مع المفاهيم والأفكار الدينية. طبعاً، هو ببيان المنام الذي رآه وجواب صاحب العصر حول المشروطة، يبيّن عقيدته حول الوضع السياسي لعصره، وذلك مبنيٌ على جواب الإمام:"المشروطة كأمةٍ سوداء ملوثة اليد، فتجبرها على أن تغسل يدها" ، حيث أنّ سواد الأمَة كناية عن غصب أصل الحكومة والمشروطة تريد إزالة ذلك الاصل، ولهذا شبهها بغسل اليد السوداء، والمشروطة لا تزيل سوى جزءً من هذا السواد.
كذلك يقوم شريعتي أمام الشيوعيين الذين يقدّمون المجتمع الإشتراكي بصفته المجتمع المثالي، ويطرح الثقافة الإسلامية والمجتمع المهدوي بديلاً لذلك. في الواقع، سعى شريعتي كي يجعل من الإسلام وبحث المهدوية ايدئولوجيةً مقابل الفكر الحداثوي ـ الشيوعية والليبرالية وليدا الحداثة ـ:" إنّ ما أتمناه وأبحث عنه هو العودة الى الإسلام بصفته ايديولوجية وإنّ ما هو مطروحٌ الآن بين علمائنا ومجامعنا الدينية الجادة والعلمية، الإسلام كثقافة" ولا يخفى أنّها خطأً تتناول المجتمع المهدوي بمساعدة الأدبيات الشيوعية، لكن كان الأساس في طرح المجتمع المهدوي مقابل الشيوعية التي تشكّل الى جانب الليبرالية النتيجة المنطقية لعصر الحداثة، محاولةٌ لطرح المهدوية بصفتها فلسفة التاريخ. ويعتقد حميد عنايت حول طرح المهدوية من قِبل شريعتي أنّه أراد من خلال التفاؤل المتلازم مع إنتظار الظهور وفرج الشيعة القائلين بالسعادة العالمية النهائية، بدلاً من (جبرانكاري) ماركس وذلك لأجل التنبؤ بنتيجة الصراع بين هذين القطبين – قصة هابيل وقابيل أو طبقة المترفين في مقابل الله والناس ـ . فطبقاً لوجهة نظر شريعتي، لا ينتهي هذا الصراع إلا بثورةٍ (جبري) تبني النظام الهابيلي. في عالمٍ يتقابل فيه نظام الوحدة الإنسانية والشرك، الدين الواعي والتحرك والثورة مقابل دين الخداع والتخدير وتبرير الوضع الموجود، نظام الوحدة والعدالة الإنسانية مقابل التمييز الطبقي والعنصري.
بناءً على ما سبق، يمكن اعتبار فكر النائيني وشريعتي بصفته مصداقاً تاريخياً في طرح المجتمع المهدوي، وبصفته سبيل حلٍّ وردّ فعلٍ مقابل عالم الحداثة، حيث أنّهما تناولا المهدوية لجهة أنّها فلسفة تاريخ. انطلاقاً من هذا الإتجاه، يكون الإعتقاد بالمهدوية مفهوماً اعتقادياً أعلى من أي نوع تخطيطٍ واستراتيجيةٍ سياسية، ويستطيع أن يساعد في تقديم وطرح سبل الحلّ والنظريات للمجتمعات الإسلامية. ولا يخفى أنّه لا يجب على المسلمين أبداً أن يغفلوا عن الجوانب الضارة لهذا المفهوم في المجالات الإجتماعية، السياسية والنفسية وكان تاريخ الحضارة الإسلامية دائماً شاهداً على ذلك حيث يجرّ الفهم الخاطئ للمهدوية الى إنحرافاتٍ وهذا ما يتطلب من علماء الدين إظهار فهمٍ ثابتٍ حول مفهوم المهدوية.
النتيجة
في مواجهة الحضارة الإسلامية للثقافة الغربية، قدّم العلماء الإسلاميين في مقابل سرعة التحولات الناتجة عن عصر الحداثة وفي مقابل الأسئلة المطروحة من قبل العصر الجديد، حلولاً للمجتمعات الإسلامية، وصدرت عنهم ردود أفعالٍ أكّدت على مسألتين مهمتين، الأولى أنّ مواجهة أغلب العلماء والمفكرين المسلمين للحضارة لغربية والثقافة الناتجة عن الحداثة، كانت مواجهة انفعالية وقبولٍ لها، والقليل منهم ممن سعى عبر نظرةٍ انتقادية الى طرح نموذجٍ مستقلٍ، وكان يُرى دائماً نوعاً من الفكر التجميعي والتركيبي بين العناصر الإسلامية ـ الغربية في أفكارهم؛ والثانية أنّه على رغم حضور مسألة المهدوية في بعض الحلول بصفتها أحد العناصر الإسلامية الصحيحة في التحقيقات الدائرة حول المستقبل وفلسفة التاريخ، وبصفتها أهم العناصر الفكرية للمسلمين المقبولة، لكنّ ليس هناك تطابق بين التلقي حول المهدوية الموجود في بعض النظريات مع ماهو مذكور في المتون الإسلامية، ولم يتم كذلك الإستفادة من هذا المفهوم الإسلامي كما ينبغي ويستحق. ويبدو أنّه من الحق عند تقديم نموذجٍ مناسبٍ ووضع أسس نظريةٍ محكمة، وضع مفهوم المهدوية في مكانه الصحيح واللائق واستثمار ما يمتلكه من قدراتٍ في بناء الثقافة والحضارة الإسلامية، وذلك بعد التعرف الصحيح على المهدوية.